من نحن ؟ | معرض الصور | الاقتراحات | التواصل معنا
Loading ... please Wait
مشاهدة Image
- -صيانة الفكر من زيغ مرجئة العصر (القسم الأول)
المكتبة > > صيانة الفكر من زيغ مرجئة العصر (القسم الأول)
عدد المشاهدات : 0
تاريخ الاضافة : 2019/02/04
المؤلف : أبي عبد الرحمن الصومالي


صيانة الفكر من زيغ مرجئة العصر: القسم الأول مسألة التوحيد

بين يدي الرسالة 

(ا) المسألة الأولى  هل ينفع قول  لا إله إلا الله  إذا كان القائل يشركُ بالله ؟ 

(أولا) بيانُ القرآن للمسألة 

(ثانيا) بيانُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم للمسألة 

(ثالثا) بيان مذهب الصَّحابة في المسألة 

(رابعا) مذهب علماء الأمّة في مختلف القرون 

القرن الثاني 

القرن الثالث 

القرن الرابع 

القرن الخامس 

القرن السادس 

القرن السابع 

القرن الثامن 

القرن التاسع 

القرن العاشر 

القرن الحادي عشر 

القرن الثاني عشر 

  القرن الثالث عشر

القرن الرابع عشر 

(خامساً) تمييز دين الرسل من دين اللفظيين 

(سادسا) الجواب عن الشبهات 

الأولى: قولهم إنّ الكافر يدخل في الإسلام بقول الكلمة ويدلّ على ذلك

الثانية: استدلالهم بالحديث:‹‹أُمرتُ أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله››

الثالثة: أما إستدلالهم بحديث ابن عمر في الذين قالوا: "صبأنا صبأنا"

الرابعة: أما إستدلالهم بحديث (قل لا إله إلاّ الله كلمة أشهد لك بها عند الله)

الخامسة: أما استدلالهم بحديث أنس الذي فيه أن غلاماً من اليهود

السادسة: أما استدلالهم بحديث الأَمّة السوداء

السّابعة: استدلالهم بحديث أنس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم

الثامنة: استدلالهم بحديث دروس معالم الدِّين ومباني الإسلام حتى لا يدرى

التاسعة: استدلالهم بحديث حكيم بن حزام، قال: "بايعت

العاشرة: استدلالهم بحديث أنس: "كان يغير عند صلاة الصبح

الحادية عشرة: يقول بعض حُذاق المرجئة المعاصرة: "نحنُ لا نُنكر أنّ

الثانية عشرة: قال أحدهم: إنّ هذا الذي نقوله من كون النطق بكلمة

الكتاب
Siyana 1 B5.pdf

الدروس
(ثالثا) بيان مذهب الصَّحابة في المسألة

(ثالثا) بيان مذهب الصَّحابة في المسألة:
إنّ صحابةَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم لم يكونوا يتحرَّجُون من تكفير وقتل من ظهر كفرُه بالله وبرسوله وإن كان ذلك الكافر ممن يُظهرُ شعائرَ الإسلامِ ويدَّعِي الإيمانَ بالله. فقد كان مذهبُهم: "تكفيرُ من كفرَ بالله، وعدمُ اعتبارِ زعمِهِ وادّعائِه مادام مصرّاً على كفرٍ صريحٍ. وكذلك كان مذهبُهم جهادَ الكفَّارِ من أيِّ صنفٍ كانوا". وكلُّ من له نظرٌ في الأدلّةِ لا يشكُّ في كونِ الصحابةِ على هذا المذهبِ.
وإليك من الأدّلةِ الصحيحةِ ما يكفي لبيان ذلك:
[الدليل الأول]
إنّ الله قد وصف الصحابة بطاعة الله ورسوله وبيّن أنّه قد رضي عنهم بإيمانهم وصدقهم في العمل ابتغاء وجه الله.
{*3} قال الله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [التوبة: 71].
وقال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾[التوبة:100]
وقال تعالى:﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ﴾ [التوبة: 117].
وقال تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ [الفتح: 18].
ولم يكن الصحابة رضوان الله عليهم ليستحقُّوا هذا الوصف الكريم وهم غير منقادين لأدلّة الكتاب والسنّة التي دلّت على أنَّ الإنسان قد يكون كافراً عند الله وهو يزعم الإيمان، وأنّ من كفر بالله يُعامَلُ معاملةَ الكفرةَ وإن كان مُظهراً للإيمان ولشعائر الإسلام.بل نجزم بأنّهم قد نالوا رِضى الله بسبب انقيادهم وطاعتهم المطلقة لله ولرسوله وقيامهم بأمر الله على أكمل الوجوه.
[الدليل الثاني]
لما تُوفي رسولُ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ارتدّ كثير من قبائل العرب عن الإسلام وكانوا متنوّعين في الردّة، كان منهم من رجع إلى عبادة الأصنام وكفر برسالة الرسول صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، وكان منهم من صدَّق الكذّابين المتنبِّئين ولم يُنكر التوحيدَ ورسالةَ الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، ولم يقع بين الصحابة اختلاف في تكفير هذين الصنفين من المرتدين وقتالهم.
ولكن كان من المرتدين قومٌ ثَبتُوا على التوحيد وتصديق رسالة النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم إجمالاً ولكنّهم منعوا الزكاة، وتأوّل بعضهم أنّ دفعها كان إلى النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم خاصةً، فإذا مات صاحبها فقد رجع الحقُّ إلى أهل الأموال. واشتبه على بعض الصحابة أمرُ أولئك، ورأوا تركَ قتالهم وتأليفَهم، مستدلّين بالحديث الآمر بالكفّ عن الناس "... حتى يقولوا لا إله إلاّ الله فإذا قالوها عصموا منِّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها وحسابهم على الله". فردَّ الصِّدِّيقُ عليهم قائلاً: "فإنّ الزكاةَ من حقِّها"، "والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة"، "والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدُّونه إلى رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم لقاتلتُهم على منعه". فثاب الصحابةُ إلى قول الصّدِّيق ورأوا أنّ الحقَّ معه، وأجمعوا على قتالِ جميعِ أصنافِ المرتدين،ونصرهم الله عليهم.والقصّةُ في الصحيحين.
فإذا كان الصَّحابةُ قد ذهبُوا من الدنيا وهم مُجمَعُون على تكفير وقتل مانع الزكاة وإن كان بريئاً من الشرك والكفر إلاّ منعَ الزكاة، وإن كان يقول "لا إله إلاّ الله" ويصلِّي، فكيف يُظَنُّ بهم عدمَ تكفيرِ المشركِ بالله شركاً أكبرَ إذا كان يُظهر التوحيد وشعائر الإسلام، أليس من البيّن الواضح أنّ إظهارَ التوحيدِ وشعائرِ الإسلامِ إذا كانَ يعصمُ المشركَ من التكفيرِ والقتلِ لَعَصَمَ مانعَ الزكاة من ذلك في زمن أفضل قرونِ الأمّةِ على الإطلاق.
فثبت أنّ مذهبَ الصحابةِ هو تكفيرُ من كفرَ بالله، وعدمُ اعتبارِ ما يدَّعِيهِ وما يُظهرهُ من الشعائر حتى يرجعَ عن ذلك.
[الدليل الثالث]
روى البخاريّ في الصحيح عن عكرمة مولى ابن عبّاس قال: أُتِي عليٌّ رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابنَ عبّاس فقال: لو كنت أنا لم أُحرِّقهم لنهي رسول اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم "لا تُعذِّبوا بعذاب الله"، ولقتلتهم لقولِ رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "من بدّل دينهُ فاقتلوه"
ومما قيلَ في تعريفِ أُلئك الزنادقةِ، أنّهم أصحابُ ابنِ سبأ، وأنّهم ألّهوا عليّاً فاستتابهم، فلمّا أصرُّوا أحرقهم بالنَّار.
فتأمّل هذه القصّة: وقعَ قومٌ في الشركِ الأكبر، وهم ينتسبون إلى الإسلام وينطقون بالشهادتين، فلم يلتفت أحدٌ من الصحابة إلى الانتساب والنُّطق، بل كفَّروهم وقتلوهم وإن اختلفوا في صفةِ القتلِ.
[الدليلُ الرّابع]
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: من فارق الدنيا على الإخلاصِ لله وحده، وعبادتهِ لا يُشركُ به شيئاً، فارقها والله عنه راضٍ"، قال: قال أنس: هو دينُ الله الّذي جاءت به الرُّسلُ، قبلَ هرجِ الأحاديثِ، واختلافِ الأهواءِ، وتصديقُ ذلك في كتاب الله في آخرِ ما أنزل الله، قال الله"فإن تابوا وأقاموا الصّلاة وآتَوُا الزّكاة فخلُّوا سبيلهم" قال: توبتهم خلعُ الأوثان، وعبادةُ ربِّهم وإقام الصلاةِ وإيتاءِ الزّكَّاة. (أخرجه الطبري)
قلتُ: "الآيةُ والحديثُ وتفسيرُ الصّحابيّ يدلُّ على أنَّ الانخلاع من الشرك والتّوبةَ منه شرطٌ في صحةِ إسلامِ المرءِ وقَبولِ أعمالهِ الصالحة"

(ثانيا) بيانُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم للمسألة

(ثانيا) بيانُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم للمسألة:
لما كانت سنَّةُ النبيّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم وهديُهُ العملي تفسيراً للقُرآن وتفصيلاً لما أجملَهُ لم يكُن من الجائز الظنُّ بأنَّ السُّنةَ جاءت بما يُعارضُ ما دلَّت عليه الآياتُ دلالةً واضحةً، لأنَّهُ من مقتضى اعتقادِنا بأنَّهُ رسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أن نجزمَ بأنَّهُ أولُ من آمن بالقُرآن واتَّبعَهُ.
ومن تدبَّر السنَّة وجدها تُبيِّنُ هذا الموضُوع كتبيين القُرآن له وتؤكِدهُ توكيداً لا يدعُ لأحدٍ مجالاً للشكِّ أو التوهم.
ويكفي طالبَ الحقِّ أن يتدبَّر وجهاً واحداً مما يأتي من أوجه الأدلَّة التي سأَسرِدها كأمثلة للبيان النبويّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم لهذه المسألة:
(الوجه الأول):
ثبت في الصحيح عن النبيّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أنَّهُ قال: "أُمرتُ أن أُقاتل النّاس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول" وفي بعض الروايات: "حتى يقولوا".
وثبت كذلك أنَّهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قال: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبدُ من دون الله حَرُمَ ماله ودمُه وحسابُه على الله عزَّ وجلَّ".
وثبت كذلك أنَّهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قال: "بُني الإسلام على خمسٍ على أن يُعبدَ الله ويكفر بما دونه وإقام الصَّلاة وإيتَاء الزّكاة وحجّ البيت وصوم رمضان". فيتبيَّنُ من هذه الأحاديث:
(1) أنَّهُ لا يصحُّ من المشركِ إسلامٌ حتى يشهدَ أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله. أي حتى يُعلنَ براءتَهُ من الشرك، وذلك أنَّ قوله: "لا إله إلا الله" نفيٌ لوجودِ آلهةٍ تستحقُّ العبادة فهو نفيٌ للشرك بالله وكذا شهادتُهُ بأن محمداً رسول الله إعلانٌ بإيمانه بما جاء به محمدٌ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم من عند الله، وأول ذلك التوحيد ونفيُ الشركِ.
فاشتراطُ الحديث لشهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله كاشتراط الآية للتوبة من الشرك.
وقد أخطأ خطأً بيّناً من ظنَّ بأنَّ التوبة المطلوبة ليست تركَ الشرك بالله وإنما هو مجرّد التلفظ بكلمة التوحيد، واستدلَّ بإيراد العلماء في دواوين السنّة والتفاسير هذا الحديث عند تفسير قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا﴾. وهذا من بلادة الفِكرِ لأنَّ الحديث يدل على نفي الشرك ودلَّت الآية كذلك على اشتراط التوبة من الشرك ولا توبةَ بدون الانخلاع منه وهذا أمرٌ مجمع عليه بين أهل العلم بالتفسير.
(2) ويتبيَّنُ كذلك أنَّ النبيَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم اشترط النطق بالشهادتين -أو ما يقوم مقامهما- لمن أراد الدخول في الإسلام كما دلَّ على ذلك الحديث الأول. واشترط كذلك "الكُفر بما يُعبَدُ من دون الله" كما دلَّ على ذلك الحديثان الأخيران.
ومن تمَّسك بالشرطِ الأول وادَّعى عدم صحَّةِ إسلام المشرك حتى ينطق بالشهادتين، وحاول إلغاء الشرط الثاني وهو "الكُفر بما يُعبَدُ من دون الله" فقد ظهرَ تلاعبُهُ بالأدلَّةِ وتمسكُه بما يوافِقُ هواه وردُّه ما عدا ذلك.
فلابُدَّ للمسلم من اعتبار الشرطين الثابتين في الأحاديث، ولا بُدَّ له بمقتضى ذلك ألاّ يُصحِّحَ إسلامُ الذي لا يتوبُ من الشِركِ ولا يَكفُر بما يُعبدُ من دون الله.
(الوجه الثاني)
قال النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم في غزوة بنى قريظة لما جئ بسعد بن معاذ: "هؤلاء نزلوا على حكمك". فقال: "تَقتل مقاتلهم وتسبى ذراريهم". قال: "قضيتَ بحكمِ اللهِ".
وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: صلى النَّبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم الصبح قريباً من "خيبر" بغلس ثم قال: الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحةِ قومٍ فساءَ صباحُ المنذرين، فخرجوا يسعون في السِكك، فَقَتل النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم المقاتلة وسبى الذرّية، وكان في السبي صفية.
في هذين الحديثين دِلالة بيّنة على أنَّ النبيَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم كان يُقاتل اليهود ويقتلهم ويسبيهم وكانوا يزعمون الإيمان بالله ويقولون "لا إله إلا الله"، وأنَّه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم لم يجعل ادّعاءَهم ونطقَهم بقول "لا إله إلا الله" عاصماً لدمهم ومالهم، إذ كان ذلك الزعمُ والنطقُ منهم وهم متلبِّسُون بالكفرِ الأكبر كتقديم طاعة الأحبار على طاعة الله والاستكبار عن أوامرِ الله وتكذيب النبي الأخير صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم.
ولذلك فرَّق الفقهاء –إقتداءً بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم - بين من يقول لا إله إلا الله في كفره كأهل الكتاب. وبين من يأبى قولها إلاّ إذا أرادَ الإسلام وتركَ الشِركِ بالله كما كان حال الوثنيين؛ الذين مضت السنَّةُ فيهم بأن يُكفَّ عنهم إذا قالوا كلمةَ التوحيدِ ولو في حال الحرب، كما جاء ذلك واضحاً في أحاديثٍ ثابتةٍ صحيحه كحديث أسامة بن زيد والمقداد بن عمرو رضي الله عنهم.
(الوجه الثالث)
في حديث عليّ رضي الله عنه يرفعه إلى النبيّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "سيخرج قومٌ آخر الزمان، أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البريَّة لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السَّهمُ من الرَّمِيةِ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنَّ في قتلهم أجراً لمن قتلهم يومَ القيامة".
وفي حديث أبى سعيد الخدريّ رضي الله عنه يرفعه إلى النبيّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "يقرؤون القرآن لا يُجاوز حلوقهم –أو حناجرهم-".
أجمع العلماء على أنَّ أولئك الخوارج الذين أمر النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم بقتلهم قوم يزعمون الإيمانَ والإسلامَ. ومع اجتِهادِهم العظيم في العبادات؛ وقراءتهم للقرآنِ المشحونِ بقول لا "إله إلا الله"؛ وإظهارِهم أركانَ الإسلامِ؛ لم يجعلهم معصومي الدماء وإن توقف البعض عن تكفيرهم وكفَّرهم البعضُ.
وسببُ هذا الاتّفاقِ على قتلهم؛وهم يشهدون الشهادتين ويصلّون ما هو إلا ذلك البيانُ النبويُّ الصريح.

(خامساً) تمييز دين الرسل من دين اللفظيين

خامساً : تمييز دين الرسل من دين اللفظيين
قد يتوهّم بعض الناس أنّ الخلاف الذي بين الموحّدين وبين أهل الإرجاء هو اختلافٌ في شروط الدخول في الإسلام، ولكن من عرف حقيقة مذهبهم أدرك أنّ الاختلاف الذي بين الطائفتين أبعدُ غوراً من ذلك، وأنّه اختلافٌ في "حقيقة دين الإسلام". إنّ الطائفتين على طرفي نقيض أو مفرق طريق في فهم حقيقة الإسلام.
فبينما يقول الموحّدون: إنّ الإسلام -الذي هو دين الرسل- هو قبول المعنى الذي تحمله كلمة "الشهادة" مع النطق بِها. وأنّ الذي ينفعه قول "لا إله إلاّ الله" هو الذي يريد بِها الدخول في دين الإسلام الذي هو: "أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً" ويريد البراءة من كل دين خالف ذلك.
يدل على ذلك ما قاله الله تعالى في بيان حقيقة الإسلام المطلوب من العباد: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5].
قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64].
وقال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "الإسلام هو أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً". [متّفق عليه].
وقد دعت كل الرسل إلى هذا الدِّين.
قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25].
وقال: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36].
بينما يقول الموحّدون ذلك.
يقول أهل الإرجاء: إنّ الإسلام هو "قول لا إله إلاّ الله". وإن كان القائل في الشرك الأكبر، وكلّ قائل بِها يحكم بإسلامه، وإن لم يتبرّأ من دين الشرك وتنفعه الكلمة في الدنيا والآخرة. فمن قال كلمة التوحيد وأخلص العبادة لله فهو على دين الإسلام، ومن قالها وهو على الشرك بالله فهو على دين الإسلام. فدين الإسلام عندهم هو قول الكلمة وليس للإخلاص والشرك تأثيرٌ وجوداً وعدماً.
فتبيّن من ذلك أنّ هناك طريقين متضادين ومذهبين متباينين. وتحتّم على من أراد أن يقوِّم الفكر المنحرف لأهل الإرجاء قبل كل شيء أن يقنعهم بضلالهم عن معرفة حقيقة الإسلام وأنّه أكبر من قول اللسان.
أما الدخول معهم في جدال حول شروط الدخول في الإسلام مع الاختلاف البيّن في فهم حقيقة الإسلام المطلوب دخوله فلا يأتي بنتيجة طيّبة، لأنّ الطائفتين تنطقان بلفظ واحد هو "الإسلام" ولكن تقصدان من اللفظ الواحد معنيين مختلفين.
فإسلام الأولين هو: قول الكلمة مع قبول المعنى و ترك الشرك بالله.
وإسلام الأخرين هو: قول الكلمة سواء أشرك أو لم يشرك. فهما على دينين مختلفين وإن اتّفق اللفظ. ولذا إذا أرادت الطائفتان الكلام عن حكم قومٍ يعبدون غير الله ويقولون لا إله إلاّ الله:
فإنّ الأولى: تقول: إنّهم مشركون، وقول الكلمة لا ينفعهم لنقضهم معناها، والألفاظ لم توضع إلاّ للمعاني، وليست مقصودة بذاتها كما تقرّر في الأصول.
والثانية: تقول: إنّهم على الإسلام، لإنّ الإسـلام هو الكلمة.
ومن هنا يتبيّن مفرق الطريق واختلاف الملّتين.

(رابعا) مذهب علماء الأمّة في مختلف القرون

(رابعا) مذهب علماء الأمّة في مختلف القرون:
(أ) القرن الثاني:
(1) مالك بن أنس (93ﻫ - 179ﻫ)
قال مروان بن محمد: سألتُ مالك بن أنس عن تزويج القدريّ؟ قال: ﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ﴾ [البقرة: 221]. [اعتقاد أهل السنّة: 1/644].
وسئل عن القدري الذي يُستتاب؟. قال: الذي يقول: إنّ الله عزّ وجل لم يعلم ما عباده عاملون حتى يعملوا" [اعتقاد أهل السنّة: 1/644].
وجاء في "المدوَّنة"، في كتاب الجهادِ:
"قلتُ: أرأيت قتالَ الخوارج، ما قولُ "مالك"فيهم؟. قال: قال مالك في الإباضية والحرورية، وأهل الأهواء كلِّهم:"أرى أن يُستتابوا، فإن تابوا وإلا قُتِلوا". قال ابنُ القاسم: وقال مالك: "إنَّهم يُقتلون إذا كان الإمامُ عدلاً".

(أولا) بيانُ القرآن للمسألة

(أولا) بيانُ القرآن للمسألة:
بيّن القرآن الكريم هذه المسألة بياناً كاملاً، يظهرُ لمن تأمَّلهُ ظهوراً لا لُبسَ فيه، وذلك من عدِّةِ أوجه:
(الوجه الأول) قال الله تعالى:﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة:5]
وقال: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: 11].
ففي الآية الأولى دلالةٌ واضحةٌ على أنَّ المُشرِك يصيرُ معصومَ الدم إذا تابَ من الشرك وأقام الصلاةَ وآتى الزكاةَ.ى فجعلت الشرطَ الأول لعصمة دمِ المُشرك وماله "التوبةَ من الشرك".
فمن أبطلَ هذا الشرطَ وزعمَ أنَّ الإنسانَ المشركَ ينالُ تلكَ العصمةَ وهو لا يزال مصرَّاً على شركهِ، فقد خالف القرآن وردَّ الآية الكريمة المحكمة التي هي من أواخر ما نزل من السور والآيات القرآنية.
ودلّت الآيةُ الثانية على أنَّ المشركَ يصيرُ مسلماً وأخاً في الدِّين إذا تابَ من الشركِ وأقام الصلاةَ وآتى الزّكاة، فجعلت الشرطَ الأول لاستحقاق العضوية في الأمَّةِ المسلمةِ "التوبةَ من الشرك" فمن أبطل هذا الشرطَ الثابتَ في الآيةِ واستثنى بعضَ المشركين بالله شركاً ظاهراً وزَعَم أنَّهم مسلمون فقد عارضَ الله وردَّ الآيةَ الكريمةَ المحكمةَ. ويدلُّ مجموعُ الآيتين على أنَّ من ثبت شركهُ بالله وإصرارُهُ عليه لا يكونُ إلا في أحد أمرين:
(الأول)أن يكون على شركٍ نشأ عليهِ ولم يَدِن بدينِ الإخلاصِ بعدُ.
(الثاني) أن يكون مرتدّاً إلى الشركِ بعد التوحيد والإخلاص.
وفي كلتا الحالتين لا يكون "مسلماً" عند الله وأخاً في الدّينِ للمسلمين وهو في أحد هذين الأمرين. لأنّ الله شرط شرطاً، ولم يأتِ منهُ نصٌّ آخر ينسخُهُ أو يستثنى بعضَ المشركين من ذلك، والدينُ بالإتباع والوقوف على النُّصوص الثابتة المحكمة.
(الوجه الثاني) قال الله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآَخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: 29].
قال الله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 31].
وقال الله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64].
هذه الآيات الثلاث نزلت في أهل الكتاب الذين كانوا يزعمون الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وكان ذلك زعماً باطلاً كما هو ظاهر هذه الآيات لأنّهم كانوا يُشركون باللهِ ويُقَدّمون آراء الرّجال على كتاب الله ثم لما جاءهم الرسول الأخير ودعاهم إلى التوحيدِ، كفروا به وكذّبوه.
(1) ففي الآية الأولى دليلٌ على وجوبِ قتالِ أهلِ الكتابِ وبيانٌ لحالهم و أنَّهم مع ادّعائهم الإيمانَ واتباعَ الكتابِ لم يكونُوا عند الله إلا كافرين مجرمين فدل هدا الحكم الإلهي دلالةً قاطعةً على أنَّ ادَّعاءَ الإيمانَ والإسلامَ ينفعُ المرءَ ويستحقُّ به حقوقَ المؤمنين عندما لا يأتي بالشركِ الناقضِ للإيمانِ والتوحيدِ.
فمن أتى بالشرك الأكبر ثمَّ زَعَم مع شركه أنَّه مؤمنٌ موحّدٌ، فقوله مردودٌ عليه؛ ولا يكون له عاصماً من القتل.
(2) ودلّت الآيةُ الثانيةُ على أنَّ الشركَ الذي وقع به أهلُ الكتاب وكانَ سبباً في إباحةِ دمائهم لأهل الإيمان كان يتمثَّلُ في نوعين:
(الأول) طاعةُ الأحبار والرهبان في المعصية وتقديم آراء الرجال على كتاب الله، فانقسمُوا إلى أربابٍ مشرّعِين وعبيدٍ مطيعين.
(الثاني) تأليهُ البشر بدعائهم والاستغاثةِ بهم في تفريج الكربات وقضاء الحاجات كما فعلوا بعزير والمسيح ابن مريم.
وإذا كان الإيمان والتوحيد يبطُل بمجرَّد تقديمِ آراءِ العلماءِ على كتاب الله، فهل يصحُّ -عقلاً ونقلاً- أن يُقال بعدم بطلانه مع تقديمِ آراءِ الجهالِ على كتاب الله!!!.
(3) ودلَّت الآية الثالثة على أنَّ للإسلام طريقةً محدَّدةً في مواجهةِ من أشرك باللهِ وزَعَم أنَّه مؤمنٌ موحِّدٌ، وطريقتُهُ هي:
(أولاً) عدمُ الانخداع بالمظاهر والشعائر الدينيَّةِ التي يتمسَّكُ بها، وأهمُّ هذه الشعائر كلمةُ الشهادةِ.
(ثانياًَ) طلبُ تحقيقِ مدلولِ الكلمةِ بالدعوةِ إلى التوبةِ من الشرك بنوعيه وإخلاص العبادةِ لله وحده.
(ثالثاً) إن أبَواْ ذلك وأصرُّوا على الشركِ باللهِ وجبَ على المؤمنين أن يتبرَّؤُا منهم وأن تنقطعَ المودَّةُ والموالاةُ بينهم.
قال تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64].
(الوجه الثالث) قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 88].
وقال: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الزّمر: 65].
وقال: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: 51].
وقد مرَّ بك في "الوجه الأول" أنَّ أحداً لا يكونُ مسلماً حتى يتوبَ من الشرك ويُقيمَ الصلاةَ ويؤتى الزكاةَ.
وهذه الآيات التي في "الأنعام"و"الزمر"و"المائدة" تدلُّ على أنَّ المُسلمَ الذي حقَّق شروطَ الدخولِ في الإسلامِ التي أوَّلُها "التوبةُ من الشركِ" إذا رجع إلى "الشركِ بالله" فإنَّهُ يفقدُ صفةَ الإسلام ويكونُ من الكافرين الخاسرين.
فآيةُ "الأنعام" وآيةُ "الزمر" تدلان بوضوح على أنَّ الشركَ بالله لو وقع من أحدِ الأنبياءِ، لكان ذلك النبيُّ من الخاسرين، ولكانت كلُّ أعماله الصالحة مُحبطةً غيرَ نافعةٍ.
فإذا كان الشركُ باللهِ يُحبِطُ أعمالَ النبيّين الّذين علَّمُوا النَّاس التوحيد وقول "لا إله إلاّ الله".. فبأيِّ حُجةٍ يستنِدُ إليها من يُصحّحُ إيمانَ الّذين يُشركون بالله ويقول إنَّ أعمالهم صحيحةٌ ونافعةٌ.
إذا كانت حجّتُهُ "إنهم يقولون: لا إله إلا الله" أُجيب بجوابين:
(الأولى) إنَّ قولَ "لا إله إلا الله" لا ينفعُ الأنبياءَ إذا أشركُوا -والعياذُ بالله- فكيفَ ينفعُ غيرهم.
(الثاني) إنَّ قول "لا إله إلا الله" أفضلُ عمل الإنسان كما جاء في الحديث "الإيمانُ بضعٌ وسبعون شعبة أو بضع وستون فأفضلها قول لا إله إلا الله". فثبتَ بالنَّصِّ أنَّ قول لا إله إلا الله من الأعمال، وأنَّ الشركَ بالله يُحبطُ الأعمالَ كلَّها.
(الوجه الرابع)
وقال الله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون: 1].
وقال: ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ [المنافقون: 4].
وقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ [الأحزاب: 1].
وقال: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ [محمَّد: 30].
ودلَّت هذه الآياتُ وما في معناها في القُرآن على أنَّ المُنافقين كانوا يُظهرون التوحيدَ والإيمانَ برسالةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ولكن بسبب الكفر الذي يُبطنونه لم يَقبَل الله تعالى ذلك منهم بل أخبر للنبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أنَّهم كاذبون وأنَّهم أعداءُ الله ورسوله والمُؤمنين. ثمَّ دلَّهُم على بعض العلامات التي يتميَّز بها المنافقون مثل "لَحْنِ الْقَوْلِ" حتى لا يقعَ الانخداعُ بهم. وقد أوجبَ اللهُ الحذرَ منهم ونهى عن طاعتهم.
فمن ذلك تعلم أنَّ الله تعالى -وان حقنَ دِماء المنافقين في الدنيا- لا يُريدُ أن ينخدع المؤمنون بدعاويهم وشعائرهم أو يثقوا بهم ويُطيعُوا توجيهاتهم. وإنما يريد أن يَعلمَ المؤمنون أنَّ المنافقين من أخطرِ أعدائهم ويُريدُ أن يأخذوا حذرهم منهم. أمَّا حقنُ دمائِهم وتركهم في الجماعةِ المُسلمةِ فذلك بسبب مصالح أُخرى مرعيَّةٍ منها أن لا يختلف المسلمون في شأنهم بسببِ وجودِ بعضِ المسلمين المنخدعين بدعاويهم وقد تربط بينهم وبين المنافقين روابطُ القرابةِ.
ومنها أن لا يكون ذلك عقبةً في وجهِ المُشركين تمنعهم من الدخول في الإسلام كما جاء في الحديث "دَعْهُ لا يتحدَّثُ النَّاس أنَّ محمَّداً يقتلُ أصحابه" (متّفق عليه). وذلك في شأن رأس المنافقين "عبد الله بن أبيّ".
ووجه الاستدلال هو: إذا كان اللهُ لا يرضَى أن نتَّخذ المنافقين "اخوةً في الدّين" وأن ننخدع بشعائرهم مع عدم إظهارهم للكفر الصريح. فهل يصحُّ القولُ بأنَّ اللهَ يرضى منَّا أن نتَّخذَ المجاهرين بالكفر والشرك الأكبر "اخوةً في الدّين" بسبب شعائرهم وأقوالهم التي نقضُوها بفعل الشركِ الظاهر؟؟.
وهل يصحُّ أن يُقال: إنَّ الله يأمرُ باتَّخاذِ من أظهر الشعائرَ وأبطنَ الكفرَ عدوّاً وينهى عن طاعتهِ واتخاذِهِ أخاً قي الدِّينِ.
ولكنَّهُ يأمُرُ باتّخاذ من أظهر الشعائر وأظهر الكفر الأكبر ولياً وأخاً في الدين؟؟.
في الحقيقة لا يذهبُ إلى هذا المذهب الضالّ إلاّ من هو مستخِفٌّ بأمرِ الدينِ مُنكرٌ بما يُعرَف ببداهةِ العقل قبل النظر إلى الأدلَّةِ النَّقلِيةِ الصريحةِ في هذا الباب.

(سادسا) الجواب عن الشبهات



القرن التاسع

(ح) "القرن التاسع"
(1) قال الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (773ﻫ - 852ﻫ) في كتابه (فتح الباري) عند حديثه عن حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله" "وفيه منع قتل من قال "لا إله إلا الله" ولم يزد عليها وهو كذلك، ولكن هل يصير بمجرد ذلك مسلما؟. الراجح لا، بل يجب الكف عن قتله حتى يختبر. فإن شهد بالرسالة والتزم أحكام الإسلام، حكم بإسلامه. وإلى ذلك الإشارة بالاستثناء بقوله "إلا بحق الإسلام" ثم ذكر كلام البغوي في هذه المسألة. [فتح الباري: 12/ 279]
(2) قال أبو بكر بن محمَّد الحسيني (752-829ﻫ) فى "كفاية الأخيار":
"ولو فعل فعلاً أجمع المسلمون على أن لا يصدر إلا من كافر، وإن كان مصرحاً بالإسلام مع فعله كالسجود للصليب أو المشي إلى الكنائس مع أهلها بزيهم من الزنانير وغيرها فإنه يكفر، ولو صلى شخص بغير وضوء متعمداً أو في ثوب نجس أو إلى غير القبلة هل يكفر؟ قال النووي: مذهبنا ومذهب الجمهور أنه لا يكفر إن لم يستحله، والله أعلم. وأما الكفر بالاعتقاد فكثير جداً: فمن اعتقد قدم العالم أو حدوث الصانع أو اعتقد نفي ما هو ثابت لله تعالى بالاجماع أو أثبت ما هو منفي عنه بالاجماع ...كان كافراً، أو استحل ما هو حرام بالإجماع، أو حرم حلالاً بالاجماع أو اعتقد وجوب ماليس بواجب كفر، أو نفى وجوب شيء مجمع عليه علم من الدين بالضرورة كفر كذا ذكره الرافعي والنووي.
إلى أن قال: "إلا أن ا لنووي جزم في صفة الصلاة من شرح المهذب بتكفير المجسمة. قلت: وهو الصواب الذي لا محيد عنه إذ فيه مخالفة صريح القرآن، قاتل الله المجسمة والمعطلة ما أجرأهم على مخالفة من {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} وفي هذه الآية رد على الفرقتين والله أعلم.
ومن استحل الخمر أو لحم الخنزير أو الزنا أو اللواط أو أن السلطان يحلل أو يحرم ككثير من الظلمة يعتقد أن السلطان إذا غضب على أحد وأنعم على آخر من دونه من ماله أنه يحل له ذلك ويدخل على الأموال والابضاع مستحلاً له بإذن السلطان، وكذا من استحل المكوس، ونحو ذلك مما هو حرام بالإجماع، والرضا بالكفر كفر، والعزم على الكفر كفر في الحال وكذا لو تردد هل يكفر كفر في الحال، وكذا تعليق الكفر بأمر مستقبل كفر في الحال، ولو قال شخص لخطيب أو واعظ: أريد الإسلام فلقني كلمة الشهادة فقال: اقعد حتى أفرغ وألقنك كفر في الحال"

القرن الثالث عشر

(ل) القرن الثالث عشر:
(1) قال الإمام محمّد بن عليّ الشوكاني (1173ﻫ ـ 1250ﻫ) بعد أن ذكر حديث الّذين قتلهم "خالد بن الوليد"بعد قولهم: صبأنا صبأنا:
"وقد استدلّ المصنّف بأحاديث الباب على أنّه يصيرُ الكافرُ مسلماً بالتكلُّمِ بالشهادتين، ولو كان ذلك على طريق الكناية بدون تصريح، كما وقع في الحديث الآخر. وقد وردت أحاديث صحيحة قاضية بأنّ الإسلام مجموعُ خصال أحدها التلفظ بالشهادتين ـ ثمّ أورد أحاديث كثيرة منها: حديث أبى هريرة المتّفَق عليه: "الإسلام أن تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتُقيم الصلاةَ المكتوبة وتُؤَدي الزكاةَ المفروضةَ وتصومَ رمضانَ"ـ
ثمَّ قال: "فهذه الأحاديث ونحوها تدلُّ على أنَّ الرَّجُلَ لا يكونُ مسلماً إلا إذا فعل جميع الأُمور المذكورة فيها. والأحاديث الأُولى تدلُّ على أنَّ الإنسان يصيرُ مُسلماً بمجرّد النُّطقِ بالشهادتين. قال الحافظ فى الفتح عند الكلام على حديث (أُمرتُ أن أُقاتل النَّاس حتى يقولوا لا إله إلا الله) في باب قتل من أبى قبول الفرائض، من كتاب استتابة المرتدين والمُعاندين ما لفظهُ:
وفيه منع قتل من قال "لا إله إلا الله" ولم يزد عليها وهو كذلك، ولكن هل يصير بمجرد ذلك مسلما؟. الراجح لا، بل يجب الكف عن قتله حتى يختبر. فإن شهد بالرسالة والتزم أحكام الإسلام، حكم بإسلامه. وإلى ذلك الإشارة بالاستثناء بقوله "إلا بحق الإسلام".
قال البغويُّ: "الكافر إذا كان وثنيا أو ثنويا لا يقرّ بالوحدانية فإذا قال: "لا إله إلا الله" حكم بإسلامه ثم يجبر على قبول جميع أحكام الإسلام ويبرأ من كل دين خالف دين الإسلام. وأما من كان مقراً بالوحدانية منكرا للنبوة فإنه لا يحكم بإسلامه حتى يقول محمد رسول الله. وإن كان يعتقد أن الرسالة المحمدية إلى العرب خاصة، فلابد أن يقول: " إلى جميع الخلق". فإن كان كفره بجحود واجب أو استباحة محرم فيحتاج أن يرجع عما اعتقده. (نيل الأوطار: الجزء السابع: باب ما يصير الكافر مسلماً)
(2) قال الإمام عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهّاب (1193 - 1285 ه‍): قوله (من شهد أن لا إله إلاّ الله) أي من تكلّم بها عارفاً لمعناها عاملاً بمقتضاها باطناً وظاهراً، فلا بد في الشهادتين من العلم واليقين والعمل بمدلولها كما قال الله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ اللهُ﴾، ﴿إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا يقين ولا عمل بما تقتضيه من البراءة من الشرك وإخلاص القول والعمل -قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح- فغيرُ نافعٍ بالإجماع. [فتح المجيد: 33].
(3) وقال سليمان بن عبد الله بن الإمام محمد بن عبد الوهّاب: "وأما قول الإنسان لا إله إلاّ الله من غير معرفة لمعناها ولا عمل به، أو دعواه أنّه من أهل التوحيد وهو لا يعرف التوحيد بل ربّما يخلص لغير الله من عبادته من الدعاء والخوف والذبح والنذر والتوبة والإنابة وغير ذلك من أنواع العبادات فلا يكفي في التوحيد بل لا يكون إلاّ مشركاً والحالة هذه". [تيسير العزيز: 140].

القرن الثالث

(ب) القرن الثالث:
(1)الإمام أحمد بن حنبل (164ﻫ ـ 241ﻫ)
قال الإمام ابن تيمية: "وقد نصَّ أحمد -في رواية أبى طالب- في حرورية كان لهم سهمٌ في قرية فخرجوا يقتلون المسلمين، فقتلهم المسلمون، فأرضهم فيءٌ للمسلمين، فيقسمُ خمُسُه على خمسةٍ، وأربعةُ أخماسهِ للذين قاتلوا يُقسمُ بينهم، أو يجعلُ الأميرُ الخراجَ على المسلمين، ولا يقسَمُ". (الفتاوى: 28/511)
قلتُ: "فإذا جعلهم كالكفار وهم ينطقون بالشهادتين ويُصلُّون لأجل تكفير وقتلِ المسلمين، فما ظنُّك بمن يفعلُ أعظمَ من ذلك، ويُشركُ بالله الشركَ الَّذي لا يُغفرُ لِمن مات عليه".
(2) قال الإمام محمّد بن إسماعيل البخاري في كتاب الإيمان من صحيحه (194ﻫ - 256ﻫ):
"باب: المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك. لقول النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: (إنك امرؤ فيك جاهلية) وقول الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} النساء: 48.
قلت: "قول الإمام واضحٌ لا يحتاج إلى تعليق وهو القول الموافق للكتاب والسنة،وقد خاب وخسر من ظنَّ أنَّه فكرُ الخوارج."
وقال في كتاب العلم من صحيحه: "باب العلم قبل القول والعمل": قال الله تعالى: "فاعلم أنّه لا إله إلا الله" فبدأ بالعلم قبل القول و العمل.
قال الحافظ: قال بن المنير: أراد به أنّ العلم شرط فى صحة القول والعمل، فلا يُعتبران إلا به فهو متقدّم عليهما. (فتح الباري: 1|العلم)
قلتُ: "وهذا ردّ على من زعم َأنّ اشتراط العلم لصحة كلمة الشّهادة بدعة"
ومذهب الإمام البخاري يظهر واضحا من أبواب كتابه، فهو يجعلُ المسألة عنوان باب، ثمّ يورد الحجّة والدليل:
قال: "كتابُ استتابة المرتدين و المعاندين وقتالهم": ثمّ ساق الآيات والآثار الّتي منها: قصة إحراق عليّ للغلاة الّذين ألَّهُوه وكانوا يقولون"لا إله إلا الله.
و قال: باب: "قتل من أبى قبول الفرائض، وما نُسبوا إلى الرّدّة"، ثمّ أورد حديث أبى هريرة في مناظرة أبى بكر لعمر و الصحابة ثمّ إجماعهم على قتال المرتدين الّذين كانوا يقولون: لا إله إلا الله" ويصلّون. فظهر من الترجمة والدليل تأييده لمذهب الصحابة.
وكذلك فعل في باب قتال الخوارج قال: "باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجّة عليهم". ثمّ أورد حديث عليّ وحديث أبى سعيد الخدريّ.
قال الحافظ ابن حجر عند شرحه لهذين الحديثين: "واستُدلّ به لمن قال بتكفير الخوارج، وهو مقتضى صنيع البخاريّ حيث قرنهم بالملحدين، وأفرد عنهم المتأوّلين بترجمة". ا ﻫ
قلتُ: "فإذا ثبت أنّه كان يرى تكفير النّاطقين بالشهادتين من مانعي الزّكاة والخوارج، فهل من المعقول أنّهُ كان يوالى المشركين لأجل نطقهم بها"
(3) الامام إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المزني -صاحب الشافعي- (175 -264 ﻫ): ولو شهد عليه شاهدان بالردة فأنكره قيل إن أقررت بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتبرأ من كل دين خالف دين الاسلام لم يكشف عن غيره وما جرح أو أفسد في ردته أخذ به وإن جرح مرتدا ثم جرح مسلما فمات فعلى من جرحه مسلما نصف الدية.
(4) وقال الإمام محمد بن جرير الطبري (224-310ﻫ):
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾
يقولُ جلَّ ثناؤه: فإن رجع هؤلاء المشركون الّذين أمرتكم أيُها المؤمنون بقتلهم عن كفرهم وشركهم بالله إلى الإيمان به وبرسوله، وأنابوا إلى طاعته، وأقاموا الصلاة المكتوبة، فأدُّوها بحدودها، وآتوُا الزكاة المفروضة أهلها ﴿فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ يقولُ: فهم إخوانكم في الدّين الَّذي أمرتكم به، وهو الإسلام ﴿وَنُفَصِّلُ الآَيَاتِ﴾ يقولُ: ونُبَيِّنُ حجج الله وأدلَّته على خلقه ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ ما بُيِّنَ لهم فنشرحها لهم مفصلة دون الجهال الَّذين لا يعقلون عن الله بيانه، ومحكم آياته.
قلتُ: "لم يزد الإمام على أن أكّد ما دلَّ عليه ظاهر الآية، من اشتراط التوبة من الشرك لانعقادِ الأُخوةِ الدينيَّة".
وقال في تفسير قوله تعالى: ﴿حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ﴾ من سورة الممتحنة: يقولُ: حتى تُصدِقوا بالله وحده، فتُوحدوه، وتُفردوه بالعبادة. فبيَّنَ هنا: أنَّ إيمانَ المرءِ لا يصحُّ حتى يُفردَ العبادةَ لله أي: حتى يَترُكَ الشركَ بالله.
وبيَّن في سورة "البيِّنة" سببَ تكفير اللهِ لأهلِ الكتاب النَّاطقين بكلمة التَّوحيد فقال: وما أمر الله هؤلاء اليهود والنَّصارى الَّذين هم أهلُ الكتاب، إلا أن يعبدوا الله مخلصين له الدِّين: يقولُ: مُفردين له الطاعة، لا يُخلطون طاعتهم ربَّهم بشركٍ، فأشركت اليهودُ بربِّها بقولهم: إنَّ عزيرا ابنُ الله، والنَّصارى بقولهم في المسيح مثل ذلك، وجحودهم نُبوَّةَ محمَّد صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم.
(5) قال الإمامُ أحمد بن محمّد الطحاويّ (239ﻫ - 321ﻫ):
فقد ذهب قوم إلى أن من قال لا إله إلا الله فقد صار بها مسلما له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين واحتجوا في ذلك بهذه الآثار وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا لهم لا حجة لكم في هذا الحديث لأن رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم إنما كان يقاتل قوما لا يوحدون الله تعالى فكان أحدهم إذا وحد الله علم بذلك تركه لما قوتل عليه وخروجه منه ولم يعلم بذلك دخوله في الإسلام أو في بعض الملل التي توحد الله تعالى ويكفر بجحدها وغير ذلك من الوجوه التي يكفر بها أهلها مع توحيدهم لله. فكان حكم هؤلاء أن لا يقاتلوا إذا وقعت هذا الشبهة حتى تقوم الحجة على من يقاتلهم وجوب قتالهم فلهذا كف رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عن قتال من كان يقاتل بقولهم لا إله إلا الله فأما من سواهم من اليهود.
فإنا قد رأيناهم يشهدون أن لا إله إلا الله ويجحدون بالنبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فليسوا بإقرارهم بتوحيد الله مسلمين إن كانوا جاحدين برسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فإذا أقروا برسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم علم بذلك خروجهم من اليهودية ولم يعلم به دخولهم في الإسلام لأنه قد يجوز أن يكونوا انتحلوا قول من يقول إن محمدا رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم إلى العرب خاصة.
وقد أمر رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم علي بن أبي طالب حين بعثه إلى خيبر وأهلها يهود بما: حدثنا يونس قال ثنا بن وهب قال أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم لما دفع الراية إلى علي حين وجهه إلى خيبر قال أمض ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك فسار علي شيئا ثم وقف ولم يلتفت فصرخ يا رسول الله على ماذا أقاتل قال قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله. قال أبو جعفر ففي هذا الحديث أن رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قد كان أباح له قتالهم وإن شهدوا أن لا إله إلا الله حتى يشهدوا مع ذلك أن محمدا رسول الله لأنهم قوم كانوا يوحدون الله ولا يقرون برسول الله فأمر رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عليا بقتالهم حتى يعلم خروجهم مما أمر بقتالهم عليه من اليهودية كما أمر بقتال عبدة الأوثان حتى يعلم خروجهم مما قوتلوا عليه وليس في إقرار اليهود أيضا بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ما يجب أن يكونوا مسلمين, ولكن النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أمر بترك قتالهم إذا قالوا ذلك لأنه قد يجوز أن يكونوا أرادوا به الإسلام أو غير الإسلام فأمر بالكف عن قتالهم حتى يعلم ما أرادوا بذلك. كما ذكرنا فيما قد تقدم من حكم مشركي العرب.
وقد أتى اليهود إلى رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فأقروا بنبوته ولم يدخلوا في الإسلام فلم يقاتلهم على إبائهم الدخول في الإسلام إذ لم يكونوا عنده بذلك الإقرار مسلمين.
(إلى أن ذكر الحديث الّذي فيه): "فقبلوا يده وقالوا نشهد أنك نبي قال: فما يمنعكم أن تتبعوني قالوا إن داود دعا أن لا يزال في ذريته نبي وإنا نخشى إن اتبعناك أن تقتلنا اليهود قال أبو جعفر ففي هذا الحديث أن اليهود قد كانوا أقروا بنبوة رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم مع توحيدهم لله فلم يقاتلهم رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم حتى يقروا بجميع ما يقر به المسلمون فدل ذلك أنهم لم يكونوا بذلك القول مسلمين وثبت أن الإسلام لا يكون إلا بالمعاني التي تدل على الدخول في الإسلام وترك سائر الملل.
وقد روى عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ما يدل على ذلك: حدثنا يونس قال أخبرنا بن وهب قال أخبرني يحيى بن أيوب عن حميد الطويل عن أنس بن مالك أن رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم. قال أبو جعفر فدل ما ذكر في هذا الحديث على المعنى الذي يحرم به دماء الكفار ويصيرون به مسلمين لأن ذلك هو ترك ملل الكفر كلها وجحدها.
والمعنى الأول من توحيد الله خاصة هو المعنى الذي نكف به عن القتال حتى نعلم ما أراد به قائله الإسلام أو غيره حتى تصح هذه الآثار ولا تتضاد. فلا يكون الكافر مسلما محكوما له وعليه بحكم الإسلام حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويجحد كل دين سوى الإسلام ويتخلى منه .
كما قال رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فيما: حدثنا حسين بن نصر قال ثنا نعيم بن حماد قال ثنا مروان بن معاوية قال ثنا أبو مالك سعد بن طارق بن أشيم عن أبيه قال سمعت رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يقول أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويتركوا ما يعبدون من دون الله فإذا فعلوا ذلك حرمت علي دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله تعالى.
حدثنا بن مرزوق قال ثنا عبد الله بن بكر قال ثنا بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال قلت صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يا رسول الله ما آية الإسلام قال أن تقول أسلمت وجهي لله وتخليت وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتفارق المشركين إلى المسلمين فلما كان جواب رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم لمعاوية بن حيدة لما سئل عن آية الإسلام أن تقول أسلمت وجهي لله وتخليت وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتفارق المشركين إلى المسلمين وكان التخلي هو ترك كل الأديان إلى الله ثبت بذلك أن كل من لم يتخل مما سوى الإسلام لم يعلم بذلك دخوله في الإسلام وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمة الله عليهم أجمعين. (معاني الآثار: 3/314)

القرن الثامن

(ز)" القرن الثامن"
(1) الإمام ابن القيم (691ﻫ - 751ه‍): قال وهو يبيّنُ الشرك الأكبر وحال المشركين المنتسبين إلى ملّة الإسلام:
"ومن أنواعه طلب حوائج من الموتى والاستغاثة بهم والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميّت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً فضلاً لمن استغاث به وسأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإن الله تعالى لا يشفع أحدٌ عنده إلاّ بإذنه، والله لم يجعل سؤال غيره سبباً لإذنه، وإنّما السبب لإذنه كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، والميّت محتاج إلى من يدعو له كما أوصانا النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم إذا زار قبور المسلمين أن نترحم عليهم ونسأل الله لهم العافية والمغفرة، فعكس المشركون هذا وزاروهم زيارة العبادة، وجعلوا قبورهم أوثاناً تُعبد، فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه ومعاداة أهل التوحيد ونسبتهم إلى تنقُّص الأموات. وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك وأوليائه المؤمنين بذمّهم ومعاداتهم وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقّص إذ ظنُّوا أنّهم راضون منهم بهذا، أو أنّهم أمروهم به، وهؤلاء أعداء الرسل في كلّ زمان ومكان وما أكثر المستجيبين لهم.ولله درّ خليله إبراهيم عليه السلام حيث يقول: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ. رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾ [إبراهيم: 35-36]. وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلاّ من جرّد التوحيد لله وعادى المشركين في الله وتقرّب بمقتهم إلى الله. [مدارج السالكين].
وقال في (زاد المعاد) عند ذكره ما في غزوة الطائف من الفقه: "ومنها أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك بعد القدرة على إبطالها يوماً واحداً. فإنها شعائر الكفر. وهى أعظم المنكرات. وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتّخذت أوثاناً يُعبد من دون الله، والأحجار التي تُقصد للتعظيم والتبرك والنذر والتقبيل. لا يجوز إبقاء شئ منها على وجه الأرض مع القدرة.وكثير منها بمنْزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، أو أعظم شركاً عندها وبها. وبالله المستعان.
ولم يكن أحدٌ من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق وترزق أو تحيى أو تميت وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين عند طواغيتهم اليوم. فاتَّبع هؤلاء سنن من كان قبلهم حذو القذة بالقذة وأخذوا مأخذهم شبراً بشبرٍ، وذراعاً بذراعٍ".
(2) وقال الإمام إسماعيل بن كثير (701ﻫ ـ 774ﻫ): في تفسيره عند قوله تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾
"يُنكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شرّ. وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم.
وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم (جنكيز خان) الذي وضع لهم "الياسق" وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد أقتبسها عن شرائع شتى من اليهودية، والنصرانية، والملّة الإسلامية وغيرها، وفيها كثيرٌ من الأحكام أخذها من مجّرد نظره وهواه.
فصار في بنيه شرعاً متّبعاً، يُقدِّمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم. فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليلٍ ولا كثيرٍ" 1هـ.
قلتُ: "التتار الّذين يتحدّثُ عنهم الإمامُ هم الذّين كانوا في زمنه، وكانوا ينتسبونَ إلى الإسلام وينطقونَ بالشهادتين، ولكن كانوا يُقدِّمون شرائعهم الوضعيَّةَ على حكمِ الكتابِ والسُنَّة، فصار الانتسابُ والنُّطق لاشيءَ، لأنَّ الفعلَ أصدقُ وأقوى من القول"
(3) قال الإمام ابن رجب الحنبلي (736ﻫ - 795ﻫ) في (جامع العلوم والحِكم):
"وقد يترك دينه ويفارق الجماعة وهو مقرٌّ بالشهادتين ويدّعي الإسلام كما إذا جحد شيئاً من أركان الإسلام أو سبّ الله ورسوله أو كفر ببعض الملائكة أو النبيين أو الكتب المذكورة في القرآن مع العلم بذلك".( ص: 205).

القرن الثاني عشر

(ك) القرن الثاني عشر:
(1) قال الإمام محمد بن عبد الوهاب (1115ﻫ-1206ﻫ) في (كشف الشبهات): إذا تحققت أن الذين قاتلهم رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أصح عقولاً وأخف شركاً من هؤلاء فاعلم أن لهؤلاء شبهة يوردونها على ما ذكرنا، وهي من أعظم شبههم فأصغ سمعك لجوابها. وهي إنهم يقولون: إن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله ويكذبون الرسول، وينكرون البعث، ويكذبون القرآن ويجعلونه سحراً، ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ونصدق القرآن، ونؤمن بالبعث، ونصلي، ونصوم، فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟
فالجواب: أنه لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدق رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم في شئ وكذبه في شئ أنه كافر لم يدخل في الإسلام. وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضه، كمن أقر بالتوحيد، وجحد وجوب الصلاة، أو أقر بالتوحيد والصلاة، وجحد وجوب الزكاة، أو أقر بهذا كله وجحد الصوم، أو أقر بهذا كله وجحد الحج.
إلى أن قال: فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي محمد صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ، وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج، فكيف إذا جحد الإنسان شيئا من هذه الأمور كفر؟ ولو عمل بكل ما جاء به الرسول، وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر، سبحان الله! ما أعجب هذا الجهل. [كشف الشبهات: 10، 11]
وقال في رسالة أرسلها إلى عبد الله بن سحيم: والكلمة الثانية قوله: أنّ المشرك لا يقول: "لا إله إلاّ الله" فيا عجباً من رجل يدعى العلم وجاء من الشام يحمل كتباً فلمّا تكلّم إذا أنّه لا يعرف الإسلام من الكفر ولا يعرف الفرق بين أبي بكر الصديق ومسيلمة الكذاب. أمّا علم أنّ مسيلمة يشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله ويصلّي ويصوم؟. أمّا علم أنّ غلاة الرافضة الذين حرقهم عليّ يقولونها وكذلك الذين يقذفون "عائشة" ويكذبون القرآن، وكذلك الذين يزعمون أنّ جبريل غلط وغير هؤلاء ممن أجمع أهل العلم على كفرهم، منهم من ينتسب إلى الإسلام ومنهم من لا ينتسب إليه كاليهود وكلّهم يقولون: " لا إله إلاّ الله"، وهذا أبين -عند من له أقلّ معرفة بالإسلام- من أن يحتاج إلى تبيان.. وإذا كان المشركون لا يقولونها فما معنى باب "حكم المرتد" الذي ذكر الفقهاء من كلّ مذهب؟ هل الذين ذكرهم الفقهاء وجعلوهم مرتدين لا يقولونها هذا الذي ذكر أهل العلم أنّه أكفر من اليهود والنصارى، وقال بعضهم: "من شكّ في كفر أتباعه فهو كافرٌ وذكرهم في الإقناع في باب حكم المرتد وإمامهم "ابن عربي" أيظنّهم لا يقولون لا إله إلاّ الله؟ لكن هو آت من الشام وهم يعبدون "ابن عربي" جاعلين على قبره صنماً يعبدونه ولستُ أعني أهل الشام كلّه حاشّاً وكلاًّ بل لا تزال طائفة على الحقّ وإن قلّت واغتربت.. لكنّ العجب العجاب استدلاله أنّ رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم دعا الناس إلى قول "لا إله إلاّ الله" ولم يطالبهم بمعناها وكذلك أصحاب رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فتحوا بلاد الأعاجم وقنعوا منهم بلفظها إلى آخر كلامه فهل يقول هذا من يتصور ما يقول؟
فنقول: (أولاً) هو الذي نقض كلامه وكذبه بقوله: دعاهم إلى ترك عبادة الأوثان "فإذا كان لم يقنع منهم إلاّ بترك عبادة الأوثان تبيّن أنّ النطق بها لا ينفع إلاّ بالعمل بمقتضاها وهو "ترك الشرك" وهذا هو المطلوب وهو الذي نقول وهو الذي أكثرتم النكير فيه..
وأما دعواه أنّ الصحابة لم يطلبوا من الأعاجم إلاّ مجرّد هذه الكلمة ولم يعرفوهم بمعناها فهذا قول من لا يفرق بين دين المرسلين ودين المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار فإنّ المؤمنين يقولونها والمنافقون يقولونها لكن المؤمنين يقولونَها مع معرفة قلوبهم بمعناها وعمل جوارحهم بمقتضاها والمنافقون يقولونها من غير فهم لمعناها ولا عمل بمقتضاها فمن أعظم المصائب وأكبر الجهل من لا يعرف الفرق بين الصحابة والمنافقين لكن هذا لا يعرف النّفاق ولا يظنّه في أهل زماننا بل يظنّه في زمن رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم وأصحابه وأما زمانه فصلح بعد ذلك. وإذا كان زمانه وبلدانه يتنزهون عن البدع ومخرجها من خراسان فكيف بالشرك والنّفاق ؟ ويا ويح هذا القائل ما أجرأ ه على الله وما أجهله بقدر الصحابة وعلمهم حيث ظنّ أنّهم لا يعلّمون الناس لا إله إلاّ الله أما علم الجاهل أنّهم يستدلّون بها على مسائل الفقه فضلاً عن مسائل الشرك. ففي الصحيحين أنّ عمر t لما أشكل عليه قتال مانعي الزكاة لأجل قوله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها» قال أبو بكر: "فإنّ الزكاة من حقّها". فإذا كان منع الزكاة من منع حقّ "لا إله إلاّ الله" فكيف بعبادة القبور والذبح للجنّ ودعاء الأولياء وغيرهم مما هو دين المشركين. وصرّح الشيخ تقي الدّين في "اقتضاء الصراط المستقيم" بأنّ من ذبح للجنّ فالذبيحة حرام من جهتين: -
من جهة أنّها مما أهلّ لغير الله ومن جهة أنّها ذبيحة مرتدّ فهي كخنْزير مات من غير ذكاة ويقول: ولو سمّي الله عند ذبحها إذا كانت نية ذبحها للجنّ. وردّ على من قال: أنّه إن ذكر اسم الله حلّ الأكل منها مع التحريم. (إ ﻫ) (سيرة الإمام: لأمين سعيد)

القرن الثاني

(أ) القرن الثاني:
(1) مالك بن أنس (93ﻫ - 179ﻫ)
قال مروان بن محمد: سألتُ مالك بن أنس عن تزويج القدريّ؟ قال: ﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ﴾ [البقرة: 221]. [اعتقاد أهل السنّة: 1/644].
وسئل عن القدري الذي يُستتاب؟. قال: الذي يقول: إنّ الله عزّ وجل لم يعلم ما عباده عاملون حتى يعملوا" [اعتقاد أهل السنّة: 1/644].
وجاء في "المدوَّنة"، في كتاب الجهادِ:
"قلتُ: أرأيت قتالَ الخوارج، ما قولُ "مالك"فيهم؟. قال: قال مالك في الإباضية والحرورية، وأهل الأهواء كلِّهم:"أرى أن يُستتابوا، فإن تابوا وإلا قُتِلوا". قال ابنُ القاسم: وقال مالك: "إنَّهم يُقتلون إذا كان الإمامُ عدلاً".
(2) سئل أبو يوسف القاضي (113ﻫ ـ 182ﻫ): ما الحكم في القدرية؟. قال: الحكم أنّه من جحد العلم اُستتيب فإن تاب وإلاّ قتلته. [اعتقاد أهل السنّة: 1/645].
قلتُ: "فإذا كانوا يرون استتابةَ "القدرِيّ"و"الحرورِيّ" الذي لا يفعلُ الشرك الأكبر ويُقرّ بالشهادتين والصلاة ولكنّه ضلّ في التأويل، فهل كانوا يتولّون الذي يفعل الشرك الأكبر لأجل إقراره بالشهادتين والصلاة!!؟.
(3) وقال الإمام سفيان الثوريّ (97ﻫ -161ﻫ): خالفنا المرجئة في ثلاث، نحن نقول: الإيمان قول وعمل، وهم يقولون: قول بلا عمل، ونحن نقول: يزيد وينقص، وهم يقولون: لا يزيد ولا ينقص، ونحن نقول: نحن مؤمنون بالإقرار، وهم يقولون: نحن مؤمنون عند الله. (شرح السنّة: الجزء الأول)
(4) قال الإمام الشافعيّ في "الأُمّ" (150ﻫ ـ 204ﻫ):
والإقرار بالإيمان وجهان: "فمن كان من أهل الأوثان ومن لا دين له يدّعى أنّه دين النُّبوة ولا كتاب، فإذا شهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً عبده ورسوله فقد أقرّ بالإيمان ومتى رجع عنه قُتل.
قال: ومن كان على دين اليهودية والنصرانية فهؤلاء يدّعون دين موسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهما وقد بدّلوا منه، وقد أُخذ عليهم فيهما الإيمان بمحمّد رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فكفروا بترك الإيمان به واتّباع دينه مع ما كفروا به من الكذب على الله قبله. فقد قيل لي: إنّ فيهم من هو مُقيمٌ على دينه يشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله، ويقول: "لم يبعث إلينا". فإن كان فيهم أحدٌ هكذا فقال أحدٌ منهم: "أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله" لم يكن هذا مستكمل الإقرار بالإيمان حتى يقول: "وأنّ دين محمّدٍ حقٌّ أو فرضٌ وأبرأ مما خالف دين محمّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أو دين الإسلام"، فإذا قال هذا فقد استكمل الإقرار بالإيمان، فإذا رجع عنه أُستُتِيبَ، فإن تاب وإلاّ قُتل.
فإن كان منهم طائفةٌ تُعرَف بأن لا تُقرّ بنبوة محمّد صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم إلاّ عند الإسلام، أو تزعم أنّ من أقرّ بنبوته لزمه الإسلام، فشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله فقد استكملوا الإقرار بالإيمان. فإن رجعوا عنه اُستُتِيبوا، فإن تابوا وإلاّ قُتلوا". موسوعة الشافعيّ: (المجلّد السابع. ص: 596).
(5) وقال الإمام محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبى حنيفة (131ﻫ - 189ه‍): "لو أنّ يهودياً أو نصرانياً قال: أنا مسلم، لم يكن بهذا القول مسلماً، لأنّ كلّهم يقولون نحن مسلمون ونحن مؤمنون ويقولون: إنّ ديننا هو الإيمان وهو الإسلام، فليس في هذا دليل على الإسلام منهم".
وقال: "ولو أنّ رجلاً من المسلمين حمل على رجلٍ من المشركين ليقتله فقال: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله، كان هذا مسلماً، وإن رجع عن هذا ضُرب عنقه، لأنّ هذا هو الدليل على الإسلام". [أحكام القرآن للجصّاص: 2/310].
وقال في كتابه"السير الكبيرـ الجزء الخامس": باب: الإسلام:
ذكر عن الحسن رضي الله عنه قال‏: ‏ قال رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ‏: ‏ ‏"‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا‏: ‏ لا إله إلا الله فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله قال‏: ‏ فكان رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يقاتل عبدة الأوثان وهم قوم لا يوحدون الله فمن قال منهم‏: ‏ لا إله إلا الله كان ذلك دليلاً على إسلامه والحاصل أنه يحكم بإسلامه إذا أقر بخلاف ما كان معلوماً من اعتقاده لأنه لا طريق إلى الوقوف على حقيقة الاعتقاد لنا فنستدل بما نسمع من إقراره على اعتقاده فإذا أقر بخلاف ما هو معلوم من اعتقاده استدللنا به على أنه بدل اعتقاده وعبدة الأوثان كانوا يقرون بالله تعالى قال الله تعالى‏: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ﴾ [الزخرف‏: ‏ 87‏].
ولكن كانوا لا يقرون بالوحدانية قال الله تعالى: ﴿إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [الصافات‏: ‏ 35]
وقال فيما أخبر عنهم: ﴿أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ فمن قال منهم‏: لا إله إلا الله فقد أقر بما هو مخالف لاعتقاده فلهذا جعل ذلك دليل إيمانه فقال‏: ‏"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا‏: لا إله إلا الله‏"‏ وعلى هذا المانوية وكل من يدعي إلهين إذا قال واحد منهم‏: ‏لا إله إلا الله فذلك دليل إسلامه فأما اليهود والنصارى فهم يقولون‏: لا إله إلا الله فلا تكون هذه الكلمة دليل إسلامهم وهم في عهد رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم كانوا لا يقرون برسالته فكان دليل الإسلام في حقهم الإقرار بأن محمداً رسول الله على ما روي عنه أنه دخل على جاره اليهودي يعوده فقال‏: ‏ اشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فنظر الرجل إلى أبيه فقال له‏: ‏ أجب أبا القاسم فشهد بذلك ومات فقال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: ‏"الحمد لله الذي أعتق بي نسمة من النار‏"‏ ثم قال لأصحابه‏: ‏ ‏"‏لُو أخاكم"‏ قال‏: ‏ فأما اليوم ببلاد العراق فإنهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ولكنهم يزعمون أنه رسو ل إلى العرب لا إلى بني إسرائيل ويتمسكون بظاهر قوله تعالى‏: ‏‏﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ﴾ [الجمعة‏: ‏ 3]. فمن يقر منهم بأن محمداً رسول الله لا يكون مسلماً حتى يتبرأ من دينه مع ذلك أو يقر بأنه دخل في الإسلام حتى إذا قال اليهودي أو النصراني‏: ‏ أنا مسلم أو أسلمت لا يحكم بإسلامه لأنهم لا يدعون ذلك فإن المسلم هو المستسلم للحق المنقاد له وهم يزعمون أن الحق ما هم عليه فلا يكون مطلق هذا اللفظ في حقهم دليل الإسلام حتى يتبرأ من دينه مع ذلك‏.
قلتُ: شتّانِ بين ما قرّره أئمّةُ الإسلام من ضرورة اعتبار مقتضيات الكلمة، وعدم التسوية بين من يترك الكفر إذا قال الكلمة، وبين من يقول الكلمة في كفره، شتّان بين ذلك وبين ما يُروّجه أهلُ الإرجاء المعاصر من الجمود على اللفظ، واعتبار القائل مسلما دائما، ولو كان يشركُ بالله في العبادة أو يُضادُّ الله سبحانه في التشريع للعباد.

القرن الحادي عشر

(ي) "القرن الحادي عشر"
(1) وقال منصور بن يونس البهوتي (1000ﻫ -1051ﻫ) في الروض المربع: (باب حكم المرتد)
"وهو لغة الراجع قال تعالى ولا ترتدوا على أدباركم واصطلاحا الذي يكفر بعد إسلامه طوعا ولو مميزا أو هازلا بنطق أو اعتقاد أو شك أو فعل فمن أشرك بالله تعالى كفر لقوله تعالى إن الله لايغفر أن يشرك به أو جحد ربوبيته سبحانه أو جحد وحدانيته أو جحد صفه من صفاته كالحياة والعلم كفر أو اتخذ لله تعالى صاحبة أو ولدا أو جحد بعض كتبه أو جحد بعض رسله أو سب الله سبحانه أو سب رسوله أي رسولا من رسله أو ادعى النبوة فقد كفر".
قال: "ويصح إسلام مميز يعقله وردته لكن لا يقتل حتى يستتاب بعد البلوغ ثلاثه أيام ".
قال: "ومن كان كفره بجحد فرض ونحوه كتحليل حرام أو تحريم حلال أو جحد نبي أو كتاب أو رسالة محمد صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم إلى غير العرب فتوبته مع إتيانه بالشهادتين إقراره بالمجحود به من ذلك لأنه كذب الله سبحانه بما اعتقده من الجحد فلا بد في إسلامه من الإقرار بما جحده أو قوله أنا مسلم أو بريء من كل دين يخالف الإسلام".
(2) قال الإمام الصنعاني (1059ﻫ - 1182ﻫ) في تطهير الاعتقاد:
"ثم إنّ رأس العبادة وأساسها التوحيد لله الذي تفيده كلمته التي إليها دعت جميع الرسل وهو قول لا إله إلاّ الله والمراد اعتقاد معناها لا مجرّد قولها باللسان ومعناها إفراد الله بالعبادة والألوهية والنفي والبراءة من كل معبود دونه".
وقال: فإن قلتَ: أفيصير هؤلاء الذين يعتقدون في القبور والأولياء والفسقة والخلعاء مشركين كالذين يعتقدون في الأصنام؟ قلت: نعم قد حصل منهم ما حصل من أولئك وساووهم في ذلك، بل زادوا في الاعتقاد والانقياد والاستعباد فلا فرق بينهم. [تطهير الاعتقاد].

القرن الخامس

(د) القرن الخامس:
(1) وقال الإمام علي بن أحمد بن سعيد بن حزم (384ﻫ–456ﻫ):
أوّل ما يلزم كلّ أحد ولا يصحّ الإسلام إلاّ به أن يعلم المرء بقلبه علم يقين وإخلاص لا يكون لشيء من الشكّ فيه أثرٌ وينطق بلسانه ولا بدّ بأنّ لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله. [المحلى: 1/2]
وقال: مَسْأَلَةٌ: فَمَنْ عَجَزَ لِجَهْلِهِ أَوْ عَجَمَتِهِ، عَنْ مَعْرِفَةِ كُلِّ هَذَا فَلاَ بُدَّ لَهُ أَنْ يَعْتَقِدَ بِقَلْبِهِ وَيَقُولَ بِلِسَانِهِ حَسَبَ طَاقَتِهِ بَعْدَ أَنْ يُفَسَّرَ لَهُ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ كُلُّ مَا جَاءَ بِهِ حَقٌّ وَكُلُّ دِينٍ سِوَاهُ بَاطِلٌ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ، حدثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حدثنا رَوْحٌ، عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قَالَ : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ , فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ.
وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ﴾ [المحلى: 1/27]
(2) وقال الإمام علي بن خلف بن عبد الملك بن بطّال (ت:449ﻫ):
وهذا المعنى أراد البخاري -رحمه الله- إثباته في كتاب الإيمان وعليه بوّب أبوابه كلّها، فقال: باب أمور الإيمان، وباب الصلاة من الإيمان، وباب الزكاة من الإيمان، وباب الجهاد من الإيمان: وسائر أبوابه، وإنّما أراد الردّ على المرجئة في قولهم: "إنّ الإيمان قولٌ بلا عمل" وتبيين غلطهم وسوء اعتقادهم ومخالفتهم للكتاب والسنّة ومذاهب الأئمة. [صحيح مسلم بشرح النووي: باب بيان الإيمان والإسلام والأحسان].
(3) وقال الإمام يوسف بن عبدالله ابن عبدالبرّ (368ﻫ - 463ﻫ) فى" الكافى فى فقه أهل المدينة": "وكل كافر قال:" لا إله الا الله محمد رسول الله" لاعبا غير راغب في الإسلام فإن ذلك لا يوجب عليه الدخول في الإسلام إذا اباه وإنما يدخل في الإسلام الراغب الطائع غير المكره ومن خرج من دين كفر إلى دين كفر قبلت منه الجزية على ما كان عليه ومن سبى من غير أهل الكتاب مجوسيا أو صقليا أو تركيا أو هنديا أو ديلميا أو بربريا أو برغواطيا أو غيرهم ممن لا كتاب لهم جبروا كلهم على الإسلام البالغ منهم وغير البالغ ومنع اليهودي والنصراني من شرائهم ولا توطأ واحدة من نسائهم الا بعد الاسلام بتعليم يستيقن معرفته منهم".
(4) وقال الإمام السرخسي فى "المبسوط"(ت: 490هـ):
وإذا رفعت المرتدة إلى الامام فقالت ما ارتددت وأنا أشهد ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله فهذا توبة منها لما بينا ان توبة المرتد بالاقرار بكلمة الشهادتين والتبرى عما كان انتقل إليه وقد حصل ذلك فانه بالانكار يحصل نهاية التبرى فلهذا كان ذلك توبة من الرجل والمرأة جميعا.
وقال: ولكن توبته أن يأتي بكلمة الشهادة ويتبرأ عن الاديان كلها سوى الاسلام أو يتبرى عما كان انتقل إليه فان تمام الاسلام من اليهودي التبرى عن اليهودية ومن النصراني التبرى عن النصرانية ومن المرتد التبرى عن كل ملة سوى الاسلام.
(5) وقال الإمام الحسين البغوي (ت: 516هـ):
"الكافر إذا كان وثنيا أو ثنويا لا يقرّ بالوحدانية فإذا قال: "لا إله إلا الله" حكم بإسلامه ثم يجبر على قبول جميع أحكام الإسلام ويبرأ من كل دين خالف دين الإسلام. وأما من كان مقراً بالوحدانية منكرا للنبوة فإنه لا يحكم بإسلامه حتى يقول محمد رسول الله. وإن كان يعتقد أن الرسالة المحمدية إلى العرب خاصة، فلابد أن يقول: " إلى جميع الخلق". فإن كان كفره بجحود واجب أو استباحة محرم فيحتاج أن يرجع عما اعتقده. ا ﻫ [فتح الباري: 12/279]
وقال فى شرح السنّة : وقوله: " حتى يقولوا: لا إله إلا الله " أراد به عبدة الأوثان دون أهل الكتاب، لأنهم يقولون: لا إله إلا الله، ثم لا يرفع عنهم السيف حتى يقروا بنبوة محمد صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ، أو يعطوا الجزية. (1\66)
وقال: اتفقت الصحابة والتابعون، فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان، لقوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ (1\38)
(6) قال الإمام أبو الوفاء بن عقيل (431ﻫ - 512ﻫ):
"لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهُلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، وهم عندي كفّارٌ بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور وخطاب الموتى بالحوائج، أو كتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا إلقاء الخرق على الشجرِ اقتداءً بمن عبد اللات والعُزّى" [عقيدة الموحّدين: 261].

القرن الرابع

(جـ) القرن الرابع:
(1) قال الإمام أبو سليمان الخطابي (ت:388هـ) في قوله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله "معلوم أن المراد بهذا أهل عبادة الأوثان دون أهل الكتاب، لأنهم يقولون "لا إله إلا الله" ثم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف". [شرح مسلم 1/206]
وقال عند حديث أنس:"كان يغير عند صلاة الصبح ،وكان يستمع ،فإذا سمع آذانا أمسك وإلا أغار": "قلت:فيه من الفقه أنَّ إظهار شعائر الإسلام فى القتال و عند شنِّ الغارة،يحقنُ به الدم ،وليس كذلك حال السلامة والطمأنينة الَّتى يتَّسع فيها معرفة الأمور على حقائقها، واستيفاء الشروط اللازمة فيها" (معالم السنن)
(2) القاضى الحسين الحليمى (338- 403هـ):
قال الحافظ ابن حجر: " قال الحليمي ولو قال اليهودي لا إله إلا الله لم يكن مسلما حتى يقر بأنه ليس كمثله شيء ولو قال الوثني لا إله إلا الله وكان يزعم ان الصنم يقربه الى الله لم يكن مؤمنا حتى يتبرأ من عبادة الصنم (فتح البارى:كتاب التوحيد)
(3) قال الإمام عبد القاهر بن طاهر البغدادي (ت:429ﻫ) في كتابه "الفَرق بين الفِرق":
(الباب الرابع): في بيان الفرق التي انتسبت إلى الإسلام وليست منها: قال: وقد ذكرنا قبل هذا أنّ بعض الناس زعم أنّ اسم ملّة الإسلام واقعٌ على كلّ مقرٍّ بنبوّة محمّد صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم وأنّ ما جاء به حقٌّ كائناً قوله بعد ذلك ما كان، وهذا اختيار الكعبيّ في مقالته. وزعمت الكرّامية أنّ اسم أمّة الإسلام واقعٌ على كلّ من قال: لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله سواءً أخلص في ذلك أو اعتقد خلافه.وهذان الفريقان يلزمهما إدخال العيسوية من اليهود والشاذكانية منهم في ملّة الإسلام، لأنّهم يقولون لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله، ويزعمون أنّ محمّداً كان مبعوثاً إلى العرب وقد أقرُّوا بأنّ ما جاء به حقٌّ. وقال بعض فقهاء أهل الحديث: اسم أمّة الإسلام واقعٌ على كلّ من اعتقد وجوب الصلوات الخمس إلى الكعبة، وهذا غير صحيح لأنّ أكثر المرتدين الذين ارتدُّوا بإسقاط الزكاة في عهد الصحابة كانوا يرون وجوب الصلاة إلى الكعبة وإنّما ارتدُّوا بإسقاط وجوب الزكاة، وهم المرتدون من بني كندة وتميم. فأمّا المرتدون من بني حنيفة وبني أسد فإنّهم كفروا من وجهين.
(أحدهما):إسقاط وجوب الزكاة.
(والثاني): دعواهم نبوة مسيلمة وطليحة.
وأسقط بنو حنيفة وجوب صلاة الصبح وصلاة المغرب فازدادوا كفراً على كفرٍ. والصحيح عندنا: أنّ اسم ملّة الإسلام واقعٌ على كلّ من أقرّ بحدوث العالم وتوحيد صانعه وقدمه وأنّه عادلٌ حكيم مع نفي التشبيه والتعطيل عنه، وأقرّ مع ذلك بنبوة جميع أنبيائه وبصحة نبوة محمّد صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ورسالته إلى الكافّة وبتأييد شريعته وبوجوب الصلوات الخمس إلى الكعبة وبوجوب الزكاة وصوم رمضان وحجّ البيت على الجملة. فكلّ من أقرّ بذلك فهو داخلٌ في أهل ملّة الإسلام، ويُنظَر فيه بعد ذلك فإن لم يخلط إيمانه ببدعة شنعاء تؤدّي إلى الكفر فهو الموحّد السُّنِّيُّ، وإن ضمّ إلى ذلك بدعة شنعاء نُظر فإن كان على بدعة الباطنية أو البيانية أو المغيرية أو المنصورية أو الجناحية أو السبابية أو الخطابية من الرافضة، أو كان على دين الحلولية أو على دين أصحاب التناسخ أو على دين الميمونية أو اليزيدية من الخوارج.
{*6} أو على دين الخايطية أو الحمارية من القدرية، أو كان ممن يحرّم شيئاً مما نصّ القرآن على إباحته باسمه أو أباح ما حرّم القرآن باسمه فليس هو من جملة أُمّة الإسلام. [الفَرقُ بين الفِرق: 220-222].
قلتُ: كل هذه الفرق التي ذكر أنها خارجة من الملة كالباطنية والبيانية و .. و .. الخ. فرق معينة معروفة كانت تنتسب إلى الإسلام وتنطق بالشهادتين.
(4) قال الإمام أبي القاسم اللألكائي: (.. - 418ﻫ):
سياق ما رُوي عن النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم في أنّ الإيمان لفظٌ باللسان واعتقاد بالقلب وعملٌ بالجوارح.
قالوا: الدال على أنّه تلفظ باللسان: قوله عزّ وجلّ: ﴿قَالَتِ الأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات: 14]
وما رُوي عن النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "أُمرتُ أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله فإذا قالوها عصموا منِّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها".
والدّالُّ على أنّه اعتقادٌ بالقلبِ قوله: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: 14].
وقوله تعالى: ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: 7]
وقوله تعالى: ﴿كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ﴾ [المجادلة: 22].
وقال تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ﴾ [المائدة:41]
وحديث أبي برزة وبريدة والبرّاء عن النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه".
والدلالة على أنّه عملٌ: قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البيِّنة: 5].
وقال تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف:110]. [اعتقاد أهل السنّة: 1/730]
(5) وقال الإمام أبو بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص (305ﻫ – 370ﻫ) في تعقيبه على قول الإمام محمد بن الحسن الشيباني: مطلب: في بيان المراد من قوله عليه السلام: "أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله".
قال أبو بكر: لم يجعل اليهودي مسلماً بقوله: "أنا مسلم أو مؤمن" لأنّهم كذلك يقولون، ويقولون: الإيمان والإسلام هو ما نحن عليه فليس في هذا القول دليلٌ على إسلامه، وليس اليهوديّ والنصراني بمنْزلة المشركين الذين كانوا في زمان النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم لأنّهم عبدة أوثان فكان إقرارهم بالتوحيد وقول القائل منهم: "إنّي مسلم وإنِّي مؤمن" تركاً لما كان عليه ودخولاً في الإسلام، فكان يُقتصر منه على هذا القول، لأنهّ كان لا يسمح به إلاّ وقد صدّق النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم وآمن به، ولذلك قال النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم". وإنّما أراد المشركين بهذا القول دون اليهود لأنّ اليهود قد كانوا يقولون: لا إله إلا الله، وكذلك النصارى يطلقون ذلك وإن ناقضوا بعد ذلك في التفصيل فيُثبتون ثلاثةً، فعلمنا أنّ قول لا إله إلاّ الله إنما كان علما لإسلام مشركي العرب وتصديقاً له فيما دعاهم، ألاّ ترى إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [الصافات: 35]. واليهود والنصارى يوافقون المسلمين على إطلاق هذه الكلمة وإنّما يخالفون في نبوة النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فمتى أظهر منهم مُظهرٌ الإيمان بالنبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فهو مسلم. [أحكام القرآن: 2/310].

القرن السابع

(و) القرن السابع
(1) قال الإمام يحيى بن شرف النووي (631 ﻫ - 676 ه‍) في شرح مسلم: "واتّفق أهلُ السنّة من المحدّثين والفقهاء والمتكلّمين على أنّ المؤمن الذي يحكم أنّه من أهل القبلة ولا يخلد في النار لا يكون إلاّ من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقاداً جازماً خالياً من الشكوك، ونطق بالشهادتين".
وقال: "أما إذا أتى بالشهادتين فلا يشترط معهما أن يقول: وأنا بريءٌ من كلّ دينٍ خالف الإسلام، إلاّ إذا كان من الكفّار الذين يعتقدون اختصاص رسالة نبينا صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم إلى العرب، فإنّه لا يحكم بإسلامه إلاّ بأن يتبرّأ".
وقال: "واعلم أن مذهب أهل الحق أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب، ولا يكفر أهل الأهواء والبدع، وأن من جحد ما يعلم من دين الإسلام ضرورة حكم بردته وكفره، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ونحوه ممن يخفى عليه فيعرف ذلك، فإن استمر حكم بكفره، وكذا حكم من استحل الزنا أو الخمر أو القتل أو غير ذلك من المحرمات التي يعلم تحريمها ضرورة".
وقال أيضا فى" شرح مسلم" (باب من مات لايشركُ بالله): "فأمّا دخول المشرك النار، فهو على عمومه فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق فيه بين الكتابي اليهوديّ والنّصرانيّ، وبين عبدة الأوثان، وسائر الكفرة، ولا فرق عند أهل الحقّ بين الكافر عنادا وغيره، ولا من خالف ملّة الإسلام، وبين من انتسب إليها ثمّ حُكم بكفره بجحده ما يكفرُ بجحده وغير ذلك.
وقال في مجموع شرح المهذّب: "وإذا تاب المرتدّ قبلت توبته سواء كانت ردّته إلى كفرٍ ظاهر به أهله أو إلى كفر يستتر به أهله كالتعطيل والزندقة، لما روى أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله، فإذا شهدوا أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله واستقبلوا قبلتنا وصلّوا صلاتنا وأكلوا ذبيحتنا فقد حرّمت علينا دماؤهم وأموالهم إلاّ بحقّها ولهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين". ولأنّ النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم كفّ عن المنافقين لما أظهروا من الإسلام مع ما كانوا يُبطنون من خلافه، فوجب أن يكفّ عن المعطّل والزنديق لما يُظهرونه من الإسلام. فإن كان المرتدّ ممن لا تأويل له في كفره فأتى بالشهادتين حكم بإسلامه لحديث أنس رضي الله عنه".
وقال: "وإن كان ممن يزعم أنّ النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم بُعث إلى العرب وحدها أو ممن يقول إنّ محمداً نبيٌّ يُبعث وهو غير الذي بُعث لم يصحّ إسلامه حتى يتبرّأ مع الشهادتين من كل دينٍ خالف الإسلام، لأنّه إذا اقتصر على الشهادتين احتمل أن يكون أراد ما يعتقده، وإن ارتدّ بجحود فرضٍ أو استباحة محرّمٍ لم يصحّ إسلامه حتى يرجع عما اعتقده ويعيد الشهادتين لأنّه كذّب الله وكذّب رسوله بما اعتقده في خبره، فلا يصحّ إسلامه حتى يأتي بالشهادتين". [المجموع شرح المهذّب: 19/231].
(2) وقال الإمام ابن تيمية (661ﻫ - 728ﻫ):
"فأيما طائفة ممتنعة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحجّ أو عن التزام تحريم الدماء والأموال أو الخمر أو الزنى أو الميسر أو نكاح ذوات المحارم أو عن التزام جهاد الكفار أو ضرب الجزية على أهل الكتاب أو غير ذلك من التزام واجبات الدِّين، أو محرّماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها -والتي يكفر الواحد بجحودها-، فإن الطائفة الممتنعة تقاتَل عليها وإن كانت مقرّة بها وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء.
وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنْزلة البغاة الخارجين على الإمام أو الخارجين عن طاعته كأهل الشام مع أمير المؤمنين على بن أبى طالب. وأما المذكورون فهم خارجون عن الإسلام".
وقال في آخر كلامه: "والصحابة لم يكونوا يقولون هل أنت مقرّ بوجوبها أو جاحدٌ لها؟ هذا لم يعهد عن الصحابة بحال. بل قال الصديق لعمر رضي الله عنهما: "والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه"، فجعل المبيح للقتال مجرّد المنع لا جحد الوجوب.
وقد روى أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب، لكن يخلُّو بها، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم سيرة واحدة. وهى قتل مقاتلهم، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم، والشهادة على قتلاهم بالنار. وسمّوا جميعاً أهل الردّة. وكان من أعظم فضائل الصديق عندهم، أن ثبته الله على قتالهم. ولم يتوقّف كما توقّف غيره حتى ناظرهم فرجعوا إلى قوله. وأما قتال المقرِّين بنبوة مسيلمة الكذَّاب فهؤلاء لم يقع بينهم نزاع في قتالهم" [الفتاوى: م 28/ص 501 - 509]. ا ﻫ
وقال: "إن لم يعتقد وجوب الصلوات الخمس والزكاة المفروضة وصيام شهر رمضان وحجّ البيت العتيق، ولا يحرّم ما حرّم الله ورسوله من الفواحش والظلم والشرك والإفك فهو كافرٌ مرتدٌّ يستتاب فإن تاب وإلاّ قُتل باتّفاق المسلمين، ولا يغني عنه التكلّم بالشهادتين".
وقال:"ومن قال:إنَّ كلَّ من تكلَّم بالشهادتين،ولم يُؤد الفرائض،ولم يجتنب المحارم،يدخلُ الجنَّة ولا يُعذَّبُ أحدٌ منهم بالنَّار:فهو كافرٌ مرتدٌّ،يجبُ أن يُستتاب،فإن تاب وإلا قتل" [الفتاوى: 35/105-106].
وقال: "ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين أنّ من سوغ إتباع غير دين الإسلام أو إتباع شريعة غير شريعة محمد صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فهو كافر وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب " [الفتاوى: 28/ 515 ].

القرن السادس

(ﻫ) القرن السادس:
(1) قال القاضي عيّاض (476ﻫ - 544ﻫ) في كتابه "الشفا":
(فصل) في بيان ما هو من المقالات كفرٌ، وما يتوقّف أو يُختلف فيه وما ليس بكفرٍ: اعلم أنّ تحقيق هذا الفصل وكشف اللّبس فيه مورده الشرع، ولا مجال للعقل فيه، والفصل المبين في هذا أنّ كل مقالةٍ صرّحتْ بنفي الربوبية أو الوحدانية أو عبادة أحدٍ غير الله أو مع الله فهو كفرٌ كمقالة الدهرية وسائر فرق أصحاب الاثنين من الديصانية أو المانوية وأشباههم من الصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا بعبادة الأوثان أو الملائكة أو الشياطين أو الشمس أو النجوم أو النار أو أحد غير الله من مشركي العرب وأهل الهند والصين والسودان وغيرهم ممن لا يرجع إلى كتاب، وكذلك القرامطة وأصحاب الحلول والتناسخ من الباطنية والطيارة من الرافضة والجناحية و البيانية و الغرابية.
وكذلك نكفر من اعترف من الأصول الصحيحة بما تقدم و بنبوة نبينا صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ولكن قال: كان أسود أو مات قبل أن يلتحي وليس الذي كان بمكة والحجاز أو ليس بقرشي لأن وصفه بغير صفاته المعلومة نفي له و تكذيب به
وكذلك من ادعى نبوة أحد مع نبينا صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أو بعده كالعيسوية من اليهود القائلين بتخصيص رسالته إلى العرب.
وكالخرمية القائلين بتواتر الرسل وكأكثر الرافضة القائلين بمشاركة علي في الرسالة للنبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم وبعده وكذلك كل إمام عند هؤلاء يقوم مقامه في النبوة والحجة وكالبزيعية والبيانية منهم القائلين بنيوة بزيع وبيان وأشباه هؤلاء أو من ادعى النبوة لنفسه أو جوز اكتسابها والبلوغ بصفاء القلب إلى مرتبتها كالفلاسفة وغلاة المتصوفة.
وكذلك وقع الإجماع على تكفير كل من دافع نص الكتاب أو خص حديثا مجمعا على نقله مقطوعا به مجمعا على حمله على ظاهره كتكفير الخوارج بإبطال الرجم و لهذا نكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل أو وقف فيهم أو شك أو صحح مذهبهم وإن أظهر مع ذلك الإسلام واعتقده واعتقد إبطال كل مذهب سواه فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك
وكذلك نقطع بتكفير كل قائل قال قولا يتوصل به إلى تضليل الأمة وتكفير جميع الصحابة كقول الكميلية من الرافضة بتكفير جميع الأمة بعد النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم إذ لم تقدم عليا وكفرت عليا إذ لم يتقدم ويطلب حقه في التقديم فهؤلاء قد كفروا من وجوه لأنهم أبطلوا الشريعة بأسرها إذ قد انقطع نقلها ونقل القرآن إذ ناقلوه كفرة على زعمهم و إلى هذا -والله أعلم- أشار مالك في أحد قوليه بقتل من كفّر الصحابة
وكذلك نكفر بكل فعل أجمع المسلمون أنه لا يصدر إلاّ من كافر وإن كان صاحبه مصرحا بالإسلام مع فعله ذلك الفعل كالسجود للصنم وللشمس والقمر والصليب و النار والسعي إلى الكنائس والبيع مع أهلها بزيهم: من شد الزنانير وفحص الرؤوس فقد أجمع المسلمون أن هذا الفعل لا يوجد إلا من كافر وأن هذه الأفعال علامة على الكفر وإن صرح فاعلها بالإسلام.
وكذلك أجمع المسلمون على تكفير كل من استحل القتل أو شرب الخمر أو الزنا مما حرم الله بعد علمه بتحريمه كأصحاب الإباحة من القرامطة و بعض غلاة المتصوفة. وكذلك نقطع بتكفير غلاة الرافضة في قولهم: إن الأئمة أفضل من الأنبياء. [الشفاء: 2/236-240].
وقال في بيان مسألة الكفّ عمن قال: لا إله إلاّ الله: "اختصاص عصمة المال والنفس بمن قال "لا إله إلا الله" تعبير عن الإجابة إلى الإيمان. وأن المراد بذلك مشركو العرب وأهل الأوثان، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفي في عصمه بقول "لا إله إلا الله" إذا كان يقولها في كفره" [شرح مسلم: 1/206]. ا ﻫ
(2) قال الإمام الشيخ عبد القادر بن أبي صالح الجيلاني (ت:561ﻫ) في "الغنية":
(باب) الذي يجب على من يريد الدخول في دين الإسلام:
(أولا) أن يتلفظ بالشهادتين:لا إله إلاالله ،محمد رسول الله،ويتبرَّأ من كلِّ دين غير دين الإسلام، ويعتقد بقلبه وحدانية الله تعالى. [الغنية:13]
وقال (في صفحة:180) عن الشيعة الغالية (وهم من الناطقين بالشهادتين):
"فمنهم الغالية: وقد ادَّعت أنَّ عليَّا رضي الله عنه أفضل من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين." قال:"وادَّعت أيضا أنَّ عليَّا رضي الله عنه نبيٌّ وأنَّ جبريل عليه السلام غلط في نزول الوحي عليه . وادَّعت أيضا أنَّ عليَّا كان إلها عليهم لعنة الله وملائكته وسائر خلقه إلى يوم الدين،وقلع آثارهم وأباد خضراءهم،ولا جعل لهم في الأرض ديَّارا. لأنَّهم بالغوا في غلوِّهم ومردُّوا غلى الكفر، وتركوا الإسلام وفارقوا الإيمان، وجحدوا الإله والرسل والتنزيل، فنعوذ بالله ممن ذهب إلى هذه المقالة"
(3) وقال برهان الدين علي بن أبى بكر المرغينانى الحنفى (ت:593هـ)"فى الهداية":
(باب أحكام المرتدِّين): "وكيفية توبته أن يتبرَّأ عن الأديان كلِّها، سوى الإسلام،لأنَّه لا دين له، ولو تبرَّأ عمَّا إنتقل إليه كفاه،لحصول المقصود"
(4) وقال الإمام ابن قدامة الحنبليّ (541ﻫ - 620 ه‍)
الفصل الثاني: أنه إذا ثبتت ردته بالبينة أو غيرها فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله لم يكشف عن صحة ما شهد عليه به وخلى سبيله ولا يكلف الإقرار بما نسب إليه لقول النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا في دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل» متفق عليه، ولأن هذا يثبت به إسلام الكافر الأصلي فكذلك إسلام المرتد، وكلام الخرقي محمول على من كفر بجحد الوحدانية أو جحد رسالة محمد، أو جحدهما جميعاً، فأما من كفر بغير هذا فلا يحصل إسلامه إلا بالإقرار بما جحده.
ومن أقر برسالة محمدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم وأنكر كونه مبعوثاً للعالمين، لا يثبت إسلامه حتى يشهد أن محمداً رسول الله إلى الخلق أجمعين، أو يتبرَّأ مع الشهادتين من كل دين يخالف الإسلام، وإن زعم أن محمداً رسول مبعوث بعدُ غير هذا، لزمه الإقرار بأن هذا المبعوث هو رسول الله، لأنه إذا اقتصر على الشهادتين احتمل أنه أراد ما اعتقده، وإن ارتد بجحود فرض لم يسلم حتى يقر بما جحده، ويعيد الشهادتين لأنّه كذب الله ورسوله بما اعتقده.. وكذلك إن جحد نبياً أو أية من كتاب الله تعالى أو كتاباً من كتبه أو ملكاً من ملائكته الذين ثبت أنهم ملائكة الله، أو استباح محرماً فلا بد في إسلامه من الإقرار بما جحد، وأما الكافر بجحد الدين من أصله إذا شهد أن محمداً رسول الله واقتصر على ذلك ففيه روايتان .. إحداهما يحكم بإسلامه. .. لأنه لا يقر برسالة إلا وهو مقر بمن أرسله وبتوحيده، لأنه صدق النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فيما جاء به وقد جاء بتوحيده.
الثاني انه إن كان مقرا بالتوحيد كاليهود، حكم بإسلامه لان توحيد الله ثابتٌ في حقه وقد ضم إليه الإقرار برسالة محمد صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فكمل إسلامه.. وإن كان غير موحد كالنصارى والمجوس والوثنيين، لم يحكم بإسلامه حتى يشهد أن لا إله إلا الله .. وبهذا جاءت اكثر الأخبار وهو الصحيح، لان من جحد شيئين لا يزول جحدهما إلا بإقراره بهما جميعاً.. وإن قال اشهد أن النبي رسول الله لم نحكم بإسلامه لأنه يحتمل أن يريد غير نبيناً.. وإن قال أنا مؤمن أو أنا مسلم، فقال القاضي.. يحكم بإسلامه بهذا.. وإن لم يلفظ بالشهادتين لأنّهما اسمان لشيء معلوم معروف وهو الشهادتان، فإذا أخبر عن نفسه بما تضمنت كان مخبراً بهما.
وروى المقداد رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله أرأيتَ إن لقيتُ رجلاً من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يديَّ بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة فقال: "أسلمتُ" أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال: "لا تقتله، فإن قتلتَه فإنه بمنْزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنْزلته قبل أن يقول كلمته التي قالها"
وعن عمران بن حصين قال: "أصاب المسلمون رجلاً من بني عقيل فأتوا به النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فقال: يا محمد إني مسلم، فقال رسول الله: "لو كنت قلت وأنت تملك أمرك أفلحت كل فلاح". [رواهما مسلم].
ويحتمل أن هذا في الكافر الأصلي أو من جحد الوحدانية، أما من كفر بجحد نبي أو كتاب أو فريضة ونحوها فلا يصير مسلماً بذلك، لأنه ربما اعتقد أن الإسلام ما هو عليه، فان أهل البدع كلهم يعتقدون أنهم هم المسلمون ومنهم من هو كافر. [المغني: 8/142].
وقال أيضاً: "وإن كان الإمام ممن يُسلِمُ تارة ويرتدُّ أُخرى لم يصلَّ خلفه حتى يُعلمَ على أيِّ دينٍ هو"(المغنى والشرح الكبير: 2|35)
(5) وقال الإمام جمال الدِّين عبد الرحمن ابن الجوزي البغدادي: (508ﻫ - 597ﻫ)‍ في (تلبيس إبليس): "قالت المرجئة: إنّ من أقرّ بالشهادتين وأتى بكلّ المعاصي لم يدخل النّار أصلاً، وخالفوا الأحاديث الصحاح في إخراج الموحّدين من النّار. قال ابن عقيل: ما أشبه أن يكون واضع الإرجاء زنديقاً، فإنّ صلاح العالم بإثبات الوعيد واعتقاد الجزاء، والمرجئة لمّا لم يمكنهم جحد الصانع ـ لما فيه من نفور الناس ومخالفتهم أسقطوا فائدة الإثبات وهي الحسبة والمراقبة، وهدموا سياسة الشرع، فهم شرّ طائفة على الإسلام" [تلبيس إبليس: 103]

القرن العاشر

(ط) القرن العاشر:
(1) قال ابن حجر الهيتمي (909ﻫ - 974ﻫ) في كتابه (الزواجر) وهو يُبيّن أنواع الشرك والكفر الذي يكون به المسلم مرتدّاً: "وفي معنى ذلك كلّ من فعل فعلاً أجمع المسلمون على أنّه لا يصدر إلاّ من كافر وإن كان مصرحاً بالإسلام كالمشي إلى الكنائس مع أهلها بزيهم من الزنانير وغيرها أو يلقي ورقة فيها شيء من قرآن أو علم شرعي أو فيها اسم الله تعالى بل أو اسم نبي أو ملك في نجاسة". [الزواجر: 1/47].
وقال أيضاً: "لا يحصل الإسلام من كافرٍ أصلي أو مرتدّ إلاّ بنطقه بالشهادتين وإن كان مقرّاً بإحداهما".
وقال: "ثم من كان كفره بإنكار أصل رسالته صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم كفاه الشهادتان. أو بتخصيصها بالعرب كالعيسوية، اشترط أن يقول رسول الله إلى كافة الإنس والجنّ".
(2) وقال الخطيب محمَّد بن أحمد الشربينى (ت:977ﻫ) فى مغنى المحتاج:
"وإن كان ارتد إلى دين يزعم أهله أن محمدا صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم مبعوث إلى العرب خاصة أو إلى دين من يقول رسالته حق لكنه لم يظهر بعد أو جحد فرضا أو تحريما لم يصح إسلامه إلا أن يقر بأن محمدا صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم رسول إلى جميع الخلق ويرجع الثاني عما اعتقده ولا يكفي شهادة الفلسفي وهو النافي لاختيار الله تعالى ... حتى يشهد بالاختراع والإحداث من العدم ولا يكفي الطبائعي القائل بنسبة الحياة والموت إلى الطبيعة لا إله إلا المحيي المميت حتى يقول لا إله إلا الله ونحوه من أسمائه تعالى التي لا تأويل له فيها.
والمعطل إذا قال محمد رسول الله قيل يكون مؤمنا لأنه أثبت المرسل والرسول والأصح أنه لا بد أن يأتي بالشهادتين كغيره ولو أقر يهودي برسالة عيسى لم يجبر على الإسلام كما لو أقر ببعض شرائع الإسلام
وقال: فائدة: يصح الإسلام بسائر اللغات كما قاله ابن الصباغ وغيره وبإشارة الأخرس. نعم لو لقن العجمي الكلمة العربية فقالها ولم يعرف معناها لم يكفِ. ويسن امتحان الكافر بعد الإسلام بتقريره بالبعث بعد الموت.
(3) وقال محمد بن أحمد المعروف بابن النجار (898ﻫ - 972ﻫ) في كتابه (شرح الكوكب المنير): "ومن جهل وجود الله تعالى جلّ وعزّ أو علِمه وفعلَ ما لا يصدر إلا من كافرٍ أو قال ما لا يصدر إلاّ من كافر إجماعاً فهو كافر ولو كان مقرّاً بالإسلام". [شرح الكوكب المنير: 4/385].
وقال أيضاً: "ونافي الإسلام مُخطئٌ آثم كافرٌ مطلقاً يعني سواء قال ذلك اجتهاداً أو بغير اجتهاد عند أئمة الإسلام". [شرح الكوكب المنير: 4/ 488].
(4) وقال شرف الدِّين موسى بن أحمد الحجاوي المقدسي (895ﻫ - 968ﻫ) في كتابه (الإقناع لطالب الانتفاع) الذي يُعدّ "عمدة" في المذهب الحنبلي: (باب حكم المرتدّ)
وهو الذي يكفر بعد إسلامه ولو مميّزاً طوعاً ولو هازلاً. فمن أشرك بالله أو جحد ربوبيته أو وحدانيته أو صفةً من صفاته، أو اتّخذ له صاحبةً أو ولداً أو ادّعي النبوة أو صدق مَن ادّعاها أو جحد نبيا أو كتاباً من كتب الله أو شيئاً منه، أو جحد الملائكة أو البعث أو سبّ الله أو رسوله، أو استهزأ بالله، أو رسله، أو كتبه. ".
قال الشيخ: أو كان مُبغضاً لرسوله أو لما جاء به اتّفاقاً. وقال: أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكّل عليهم ويدعوهم ويسألهم إجماعاً. انتهى. أو سجد لصنم أو شمسٍ أو قمرٍ أو أتى بقولٍ أو فعلٍ صريحٍ في الاستهزاء بالدِّين أو وُجد منه امتهانٌ للقرآن، أو طلب تناقضه أو دعوى أنّه مختلفٌ أو مُختلَقٌ، أو مقدورٌ على مثله أو إسقاطٌ لحرمته، أو أنكر الإسلام أو الشهادتين أو أحدهما، كفر، لا من حكى كفراً سمعه ولا يعتقده، أو نطق بكلمةٍ الكفر ولا يعلم معناها، ولا من جرى على لسانه سبقاً من غير قصدٍ لشدّة فَرِحٍ أو دهشٍ، أو غير ذلك كقول من أراد أن يقول: اللهمّ أنت ربِّي وأنا عبدُك، فقال: اللهمّ أنتَ عبدي وأنا ربُّك".

بين يدي الرسالة

بسم الله الرحمن الرحيم
بين يدي الرّسالة:
الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم أجمعين. أمّا بعد:
فإنّه لمّا تبيّن الحقّ، وعرف كثيرون، "أنّ قول: لا إله إلا الله" مناقض للشرك الأكبر، وأنّ التوحيد دين والشرك دين، وأنّ كلمة التّوحيد لا تنفع من كان دينه الشرك بالله، ومن كان يقولها في كفره، وأنّ إسلام المرء وإيمانه لا يصحّ حتى يتوب من الشرك ويتبرّأ من أهله. لمّا تبيّنت هذه الأمور، ووضّح الله السبيل السويّ لمن شاء من عباده، قام "المنحرفون" بردود فعل كثيرة، بأساليب متنوعة لصرف عباد الله عن الصراط المستقيم
ولقد جاؤا بشبهات كثيرة، يتعجّب منها الموحّد؛ كيف تصدر مثل هذه الأباطيل من رجال يفتخرون بالعلم. ولكن يزول عجبه إذا تذكّر قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 213].
﴿وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا﴾ [المائدة: 41].
﴿مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا﴾ [الكهف:17].
ولكن لما كان من نتائج هذه الشبهات أن يصاب كثير من طلاّب الحقّ بالحيرة والتردد زمنا قد يُفيقون بعده إلى رشدهم ويلتحقون بركب الموحدين؛ أو ينقلبون على أعقابهم ويُكثرون سواد المتطيّرين بهم. تحتّم علينا أن نحاول جهدنا وأن نقول بالحقّ، لأنّ "من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار"كما ثبت في الحديث.
ومن أخطر ما جاؤا به من العقائد المحدثة ولقنوها النّاس تلك المقالة التي مضمونها: "أنّ الأمّة المسلمة أجمعت على أنّ من قال "لا إله إلا الله محمّد رسول الله" في الشرك والكفر يحكمُ بإسلامه".
منهم من يقول ذلك بصراحة وجُرأة، ويُجيب إذا سئل عمن يقول"لا إله إلا الله" في الشرك الأكبر: "أنا لا أجد للتكفير موضعا"
ومنهم من يقول: "من وقع في الشرك الأكبر يرتدّ عن الإسلام، ولكن لا يوجَدون أو هم قلّة" وكأنّه في عالم غير عالمنا.
ومنهم من يقول: "إنّ الشرك الأكبر قد غلب على الأمّة ولكن لا يجوز تكفيرهم قبل إقامة الحجّة". ثمّ يجعل باب إقامة الحجّة من المحال، حيثُ يشترطُ لها حاكما مسلما يحكم بما أنزل الله. ويقولون غير ذلك من أقوال متضاربة.
وسيرى-إن شاء الله- من قرأ هذه السُطور، ونظر إليها بعين الإنصاف، وتحرّر من التعصب، أنّ الحقّ بخلاف ذلك، وأنّ الأمّة قد أجمعت على: "أنّ من قال "لا إله إلا الله، محمّد رسول الله" في الشرك والكفر لا يكونُ مسلما في الظاهر والباطن ولا ينفعه التلفظ حتى يتبرّأ مما خالف الإسلام".
وأنّ فقهاء الإسلام -من جميع المذاهب- في جميع القرون؛ كانوا يذكرون هذه الحقيقة ويتلقّى الخلفُ منهم عن السلف ما قرّروه من البيان في هذا الباب بالرّضى والقَََبول.
وسوف أُتبعُ – إن شاء الله- أجوبة عن باقي الشبهات الّتي كثُرَ حولها السؤالُ؛ ذاكراً الأخطر منها فالأخطر.

القرن الرابع عشر

(م) القرن الرابع عشر:
قال سيد قطب (ت: 1386ﻫ تقريباً) في ظلال القرآن في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾:
"إن سفور الكفر والشرّ والإجرام ضروريّ لوضوح الإيمان والخير والصلاح. واستبانةُ سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات. ذلك أن أيَّ غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتدّ غبشاً وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم، فهما صفحتان متقابلتان وطريقان مفترقان ولا بدّ من وضوح الألوان والخطوط.
ومن هنا يجب أن تبدأ كلّ حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين، يجب أن تبدأ من تعريف سبيل المؤمنين وتعريف سبيل المجرمين، ووضع العنوان المميّز للمؤمنين والعنوان المميِّز للمجرمين في عالم الواقع لا في عالم النظريات. فيعرف أصحاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية من هم المؤمنون ممن حولهم ومن هم المجرمون، بعد تحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلامتهم، وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم، بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان، ولا تلتبس الملامح والسِّمات بين المؤمنين والمجرمين.
وهذا التحديدُ كان قائماً وهذا الوضوح كان كاملاً، يوم كان الإسلام يواجه المشركين في الجزيرة العربية. فكانت سبيل المسلمين الصالحين هي سبيل الرسول صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ومن معه، وكانت سبيل المشركين المجرمين هي سبيل من لم يدخل معهم في هذا الدِّين. ومع هذا التحديد وهذا الوضوح كان القرآن يتنَزّل وكان الله سبحانه يُفصِّل الآيات على ذلك النحو الذي سبقت منه نماذج في السورة -ومنها ذلك النموذج الأخير- لتستبين سبيل المجرمين !.
وحيثما واجه الإسلام الشرك والوثنية والإلحاد والديانات المنحرفة المتخلفة من الديانات ذات الأصل السماوي بعد ما بدّلتها وأفسدتها التحريفات البشرية، حيثما واجه الإسلام هذه الطوائفَ والمللَ كانت سبيل المؤمنين الصالحين واضحة، وسبيل المشركين الكافرين المجرمين واضحة كذلك، لا يجدي معها التلبيس!
ولكن المشقّة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ليست في شيء من هذا. إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من سَلالات المسلمين، في أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للإسلام، يسيطر عليها دين الله وتُحكم بشريعته. ثم إذا هذه الأرض، وإذا هذه الأقوام تهجر الإسلام حقيقة، وتعلنه اسماً. وإذا هي تتنكَّر لمقومات الإسلام اعتقاداً وواقعاً. وإن ظنّت أنها تدين بالإسلام اعتقاداً! فالإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله، وشهادة أن لا إله إلاّ الله تتمثل في الاعتقاد بأن الله -وحده- هو خالق هذا الكون المتصرّفُ فيه. وأن الله -وحده- هو الذي يتقدّم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاط الحياة كله. وأن الله -وحده- هو الذي يتلقَّى منه العباد الشرائعَ ويخضعون لحكمه في شأن حياتهم كله. وأيَّما فرد لم يشهد أن لا إله إلاّ الله -بهذا المدلول- فإنه لم يشهد ولم يدخل في الإسلام بعدُ. كائناً ما كان اسمه ولَقَبُهُ ونسبه. وأيَّما أرض لم تتحقّق فيها شهادة أن لا إله إلاّ الله -بهذا المدلول- فهي أرض لم تَدِن بدين الله، ولم تدخل في الإسلام بعدُ.
وفي الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماءُ المسلمين، وهم من سلالات المسلمين. وفيها أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للإسلام. ولكن لا الأقوام اليوم تشهد أن لا إله إلاّ الله -بذلك المدلول- ولا الأوطان اليوم تَدين لله بمقتضى هذا المدلول. وهذا أشقّ ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام!
أشقّ ما تُعانيه هذه الحركات هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلاّ الله، ومدلول الإسلام في جانب، وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر..
أشقّ ما تُعانيه هذه الحركات هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين، وطريق المشركين المجرمين، واختلاط الشارات والعناوين، والتباس الأسماء والصفات، والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق!
ويعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة، فيعكفون عليها توسيعاً وتمييعاً وتلبيساً وتخليطاً. حتى يصبح الجهر بكلمة الفصل تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام ! تهمة تكفير "المسلمين"!!! ويُصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألةً المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم، لا إلى قول الله ولا إلى قول رسول الله!. هذه هي المشقّة الكبرى وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بدّ أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل!
يجب أن تبدأ الدعوة إلى الله باستبانة سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين.. ويجب ألاّ تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحقّ والفصل هوادة ولا مداهنة. وألاّ تأخذهم فيها خشية ولا خوف، وألاّ تُقْعِدُهم عنها لومة لائم، ولا صيحة صائح: انظروا! إنهم يكفِّرون المسلمين!
إن الإسلام ليس بهذا التميُّع الذي يظنّه المخدوعون! إن الإسلام بيِّن والكفر بيِّن. الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله –بذلك المدلول- فمن لم يشهدها على هذا النحو، ومن لم يُقمها في الحياة على هذا النحو، فحكم الله ورسولِهِ فيه أنه من الكافرين الظالمين الفاسقين .. المجرمين. ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ﴾..
أجل يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة إلى الله هذه العقبة، وأن تتمّ في نفوسهم هذه الاستبانة، كي تنطلق طاقاتهم كلُّها في سبيل الله لا تصدُّها شبهة، ولا يعوِّقها غَبَشٌ، ولا يميّعها لَبْسٌ. فإن طاقاتِهم لا تنطلق إلاّ إذا اعتقدوا في يقين أنهم هم "المسلمون" وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدُّونهم ويصدُّون الناس عن سبيل الله هم "المجرمون".. كذلك فإنهم لن يحتملوا متاعب الطريق إلاّ إذا استيقنوا أنها قضية كفر وإيمان. وأنهم وقومهم على مفرق الطريق، وأنهم على ملّة وقومهم على ملّة. وأنهم في دين وقومهم في دين: ]وكذلك نفصِّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين[. وصدق الله العظيم.[في ظلال القرآن: م 2- ص 1105].

(ا) المسألة الأولى هل ينفع قول لا إله إلا الله إذا كان القائل يشركُ بالله ؟

(ا) المسألة الأولى: هل ينفع قول: "لا إله إلا الله" إذا كان القائل يشركُ بالله ؟
أقولُ: يَحسُنُ في الجواب أن ننظر أولاً إلى القرآن ثمّ إلى السنّة ثمّ إلى مذهب الصّحابة ومن بعدهم من أئمّة الإسلام.

الأولى قولهم إنّ الكافر يدخل في الإسلام بقول الكلمة ويدلّ على ذلك

(الأولى): قولهم إنّ الكافر يدخل في الإسلام بقول الكلمة ويدلّ على ذلك حديث أسامة بن زيد والمقداد بن الأسود !!.
جـوابه: إنّ كان المراد أنّه يدخل في الإسلام وإن كان مقيماً في الشرك فليس هذا دين الإسلام الذي جاءت به الرسل عليهم السلام وإنّما هو دين مبتدعٌ وإن أُطلق عليه لفظ "الإسلام"، وقد بيّنتُ حقيقة دين الرسل فيما سبق.
ولو كان النطق وحده إسلاماً لكان اليهود الذين يقولون لا إله إلاّ الله ويسكنون المدينة مع النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم مسلمين، ولكانت بنوحنيفة الذين يشهدون الشهادتين مسلمين.
ومعلوم أنّ الله أمر بقتال أهل الكتاب الذين يقولون الكلمة في آية السيف، ومعلوم كذلك أنّ الصحابة أجمعوا على كفر بني حنيفة وقتالهم.
أما عن حديث أسامة والمقداد: فالجواب عنهما: أنّ الحديثين ليسا مطلقين في جميع أنواع الكفّار بل يخصّان الوثنيين الذين كانوا الغالبية في جزيرة العرب وأقوى الجبهات التي تقاومُ الإسلام. وقد صرح العلماء في التفريق بين الوثني والكتابي في الإقرار.
قال الإمام الشافعيّ في "الأُمّ": والإقرار بالإيمان وجهان:
"فمن كان من أهل الأوثان ومن لا دين له يدّعى أنّه دين النُّبوة ولا كتاب، فإذا شهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً عبده ورسوله فقد أقرّ بالإيمان ومتى رجع عنه قُتل.
قال: ومن كان على دين اليهودية والنصرانية فهؤلاء يدّعون دين موسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهما وقد بدّلوا منه، وقد أُخذ عليهم فيهما الإيمان بمحمّد رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فكفروا بترك الإيمان به واتّباع دينه مع ما كفروا به من الكذب على الله قبله. فقد قيل لي: إنّ فيهم من هو مُقيمٌ على دينه يشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله، ويقول: "لم يبعث إلينا". فإن كان فيهم أحدٌ هكذا فقال أحدٌ منهم: "أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله" لم يكن هذا مستكمل الإقرار بالإيمان حتى يقول: "وأنّ دين محمّدٍ حقٌّ أو فرضٌ وأبرأ مما خالف دين محمّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أو دين الإسلام"، فإذا قال هذا فقد استكمل الإقرار بالإيمان، فإذا رجع عنه أُستُتِيبَ، فإن تاب وإلاّ قُتل.
فإن كان منهم طائفةٌ تُعرَف بأن لا تُقرّ بنبوة محمّد صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم إلاّ عند الإسلام، أو تزعم أنّ من أقرّ بنبوته لزمه الإسلام، فشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله فقد استكملوا الإقرار بالإيمان. فإن رجعوا عنه اُستُتِيبوا، فإن تابوا وإلاّ قُتلوا". موسوعة الشافعيّ: (المجلّد السابع. ص: 596).
وقال الإمام محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبى حنيفة: "لو أنّ يهودياً أو نصرانياً قال: أنا مسلم، لم يكن بهذا القول مسلماً، لأنّ كلّهم يقولون نحن مسلمون ونحن مؤمنون ويقولون: إنّ ديننا هو الإيمان وهو الإسلام، فليس في هذا دليل على الإسلام منهم".
وقال الإمام الحسين البغوي: "الكافر إذا كان وثنيا أو ثنويا لا يقرّ بالوحدانية فإذا قال: "لا إله إلا الله" حكم بإسلامه ثم يجبر على قبول جميع أحكام الإسلام ويبرأ من كل دين خالف دين الإسلام. وأما من كان مقراً بالوحدانية منكرا للنبوة فإنه لا يحكم بإسلامه حتى يقول محمد رسول الله. وإن كان يعتقد أن الرسالة المحمدية إلى العرب خاصة، فلابد أن يقول: " إلى جميع الخلق". فإن كان كفره بجحود واجب أو استباحة محرم فيحتاج أن يرجع عما اعتقده.ا ﻫ [فتح الباري: 12/279]
قلت:"أنظر كيف وضع الأئمةُ في إعتبارهم معرفة القوم الّذين جاء منهم المقرّ،وهل كانوا يدَّعُون الإسلام أو يقولون كلمة التوحيد في كفرهم أم لا، مما لا يدور في خلد أهل الإرجاء المعاصر"
فإن كان الكلام عن الوثنيِّ الّذي قال "لا إله إلاّ الله" فأقوال أهل العلم لا تخرج عن قولين:
(الأول): أنّه صار بذلك مسلماً. (كقول الشافعي. ومحمد بن الحسن. والبغوي).
(الثاني): أنّه يجب الكفّ عنه واختباره، فإن شهد بالرسالة والتزم أحكام الإسلام حُكم بإسلامه. (كقول ابن حجر، والطحاوي).
ولا يعدّ مثل ذلك خلافاً لتنوع أحوال الناس. فمثلاً: من عَلِمَ من الوثنيين أنّ الإسلام: "أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً" فأبى وعاند أوقاتل ثم جاء تائباً قائلاً: "أشهد أن لا إله إلاّ الله". يحمل أمره على قبوله طريق التوحيد والإسلام وتركه طريق الشرك والكفر، وأنّه عزم على أن يخرج من "دين" ويدخل في "دين".
أما من يجهل حالُه أو لايُدري هل يريد دخول الإسلام أو دخول اليهودية لكون كلا الطائفتين مقرّتين بكلمة التوحيد، فالواجب التثبت في أمره، فإن شهد بالرسالة والتزم الأحكام حكم بإسلامه.

التاسعة استدلالهم بحديث حكيم بن حزام، قال بايعت

(التاسعة):
1- استدلالهم بحديث حكيم بن حزام، قال: "بايعت رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أن لا أخر إلا قائماً" (رواه النسائي).
2-وحديث: " أنّه أتى النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فأسلم على أن يصلي صلاتين (لا خمساً) فقبل منه وجاء في رواية أخرى: على ألا يصلي إلاّ صلاة ".(رواه أحمد)
3-وحديث جابر: عن شأن ثقـيف إذ بايعت فقال: اشترطت على النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أن لا صدقة عليها ولا جهاد، وأنّه سمع النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يقول بعد ذلك «سيتصدقون ويجاهدون» رواه أبو داود.
فيقولون: "بما أنّ ترك الصلاة أو الركوع واستحلال ترك الجهاد والصدقة كفرٌ وقد صحّ إسلام القوم مع وجود الكفر، فدلّ على أنّ القوم أسلموا بالنطق، وأنّ الإسلام هو التلفظ بكلمة التوحيد وإن لم ينقد المتلفظ لمعناها".
الجواب: إنّ الإيمان قسمان:
(1) أصل الإيمان: مثل التوحيد والرسالة والبعث والحساب والكتب والملائكة.
(2) الإيمان الواجب: وهو فعل الواجب وترك المحرّم.
ففاقد أصل الإيمان كافرٌ قبل مجيء الرسالة و إقامة الحجّة وبعدها. أما "الإيمان الواجب" فتركه لا يكون كفراً قبل البيان، ويكون كفراً بعده أو فسقاً على حسب حال التارك. فدلّ ذلك على أنّ من رضي بالإسلام -الذي هو عبادة الله وحده وترك ما يخالفة من الشرك- قد يصحّ إسلامه وهو يجهل وجوب الصلاة والصيام أو تحريم الخمر والزنا وغيرها. وكذلك من علم أن الصلاة من الإسلام وجهل وجوبها أو وجوب بعض الصلوات الخمس أو وجوب الركوع وأنّه ركنٌ منها لا يجوز تركه، وكذا الجهاد والصدقة، فلا خلاف في أنّ إسلامه صحيح، أما إذا امتنع بعد العلم أو استحلّ الخلاف فلا خلاف أيضاً في كفره.
ولذلك قال أهل العلم: إذا أراد الكافر أن يُسلم أي: أن يترك الكفر ويخلص العبادة لله، وشرط شرطاً فاسداً يُقبَلُ منه ثم بعد إسلامه يُلزَمُ بالحقّ الواجب عليه.
وقال ابن رجب في (جامع العلوم والحكم): "وأخذ الإمام أحمد بهذه الأحاديث وقال يصحُّ الإسلام على الشرط الفاسد ثم يلزم بشرائع الإسلام كلها"
وقال ابن قدامة في المغني: وسئل-اي الإمام أحمد- عن الرجل يسلم بشرط أن لا يصلي إلا صلاتين فقال يصح إسلامه ويؤخذ بالخمس .
وقال معنى حديث حكيم بن حزام -بايعت النبي على أن لا أخر إلا قائماً- أنه لا يركع في الصلاة بل يقرأ ثم يسجد من غير ركوع.
قال الشوكاني في (نيل الأوطار) بعد أن سرد هذه الأحاديث: «فيها دليل على أنّه يجوز مبايعة الكافر وقبول الإسلام منه وإن شرط شرطاً باطلاً».
فبطل قول "المرجئة" ومرادهم إذ ليس في الأحاديث قوم أسلموا بلفظ مجرّد عن معناه، كما ليس فيها كفرٌ أُذِنَ في فعله كما يتوهّمون. وتفسير حديث حكيم مخلتَفٌ فيه:
قال ابن كثير: "فقيل: معناه أن لا أموت إلا مسلماً، وقيل: معناه أن لا أقتل إلا مقبلاً غير مدبر وهو يرجع إلى الأول."(تفسير القرآن العظيم:آل عمران:"فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون")
وقال ابن الأثير في (النهاية في غريب الحديث): "معناه: لا أموت إلا متمسكاً بالإسلام ثابتاً عليه يقال قام فلان على الشيء إذا ثبت عليه وتمسك به وقيل معناه لا أقع في شيء من تجارتي وأموري إلا قمت به منتصباً لـه وقيل معناه لا أغبن ولا أغبن.

الثالثة أما إستدلالهم بحديث ابن عمر في الذين قالوا صبأنا صبأنا

(الثالثة) أما إستدلالهم بحديث ابن عمر في الذين قالوا: "صبأنا صبأنا" فهو حجةٌ عليهم من وجهين:
(الأول): قالوا: "إنّ الحدّ الأدنى للدخول في الإسلام هو قول لا إله إلاّ الله". ثم قالوا: إنّ الإنسان قد يدخل في الإسلام دون أن يقول لا إله إلاّ الله فتناقضوا وبطل حدُهم الأدنى بالنصّ.
(الثاني): قد كان بنو جذيمة من أهل الأوثان الذين بلغتهم الدعوة وكانوا يعلمون أن المسلمين يُقال عنهم "صباة" لكونهم خرجوا من دين قومهم وتركوا الشرك بالله .. ولما قالوا: "صبأنا" كانوا يريدون أن يقولوا خرجنا من ديننا الأول ودخلنا في دينكم. فدلّ الحديث على اعتبار المعنى الذي يُراد به من وراء اللفظ. فمن قال: "صبأتُ". وهو يريد أسلمتُ لله وتركتُ الشرك يُعصم دمه. ومن قال: "صبأتُ" وهو يريد دخلتُ في دين الصابئين أو الوثنيين لم يعصم دمه. فدلّ ذلك على أن من قال: "لا إله إلاّ الله" وهو مقيم على الشرك لا يُسلم، ومن قال: "لا إله إلاّ الله" وهو يريد الخروج من الشرك بالله والدخول في عبادة الله وحده يُعتبرُ مسلماً.

الثامنة استدلالهم بحديث دروس معالم الدِّين ومباني الإسلام حتى لا يدرى

(الثامنة): استدلالهم بحديث دروس معالم الدِّين ومباني الإسلام حتى لا يدرى ما صلاةٌ ولا صيامٌ ولا صدقةٌ ويبقى من لا يتمسّك من الإسلام إلاّ قول "لا إله إلاّ الله" وأنّ لا إله إلاّ الله تنجيهم من النار.
والجواب: إذا نُظر هذا الحديث بعين "الإرجاء المعاصر" يُظنُّ أنّه حجّةٌ تدلُّ على أنّ المذكورين في الحديث لا يعلمون من الدِّين إلاّ لفظ "لا إله إلاّ الله" وأنّهم نجوا بذلك، وقد قال أحد غلاتهم: "إذا كانوا لا يعلمون ما صيام ولا صلاة ولا نسك فكيف يعرفون إخلاص العبادة ونبذ الشرك". وهذه من جهالاتهم العجيبة، وظنّهم بأنّ معرفة الأحكام الفرعية أولى من معرفة معنى "لا إله إلاّ الله".
أمّا إذا نُظِر بعين الإسلام الأصيل فإنّ الحديث لا يناقض الأصول المقرّرة القطعية المعلومة من الدِّين بالضرورة والتي منها:
1- أنّ الله تعالى أخبر في كتابه -والأخبارُ لا تُنسخ- أنّ الدِّين الوحيد الذي أمر عباده أن يتّبعوه هو: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً". في مثل قوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5].
وقوله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [النساء: 36].
وقوله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً".
ولا يكون أحدٌ ناجياً إلاّ إذا كان على هذا الدِّين الذي هو معنى: "لا إله إلاّ الله".
2- أخبر الله تعالى أنّ المشرك لا يدخل الجنّة ويخلّد في النار.
قال تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ﴾ [المائدة: 72].
وقال تعالى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الزمر: 65].
وفي الحديث: "لا يدخل الجنّة إلاّ نفسٌ مسلمةٌ". [متّفق عليه].
فلا يكون أحدٌ ناجياً إلاّ إذا كان بريئاً من الشرك. فإذاً لا بُدّ أن يفسَّر الحديث تفسيراً يوافق الأصول الثابتة القطعية التي لا خلاف فيها. والحمد لله ليس في جميع طرق الحديث أنّ القوم نجَوا باللفظ وهم منكرون لمعناها ويشركون بالله.
وهذا الحديث جزءٌ من أحاديث كثيرة تُخبر عمّا سيحدث قبل قيام الساعة من انتشار الجهل والعودة إلى الجاهلية تدريجيا، وهي على مراتب:
(الأولى): مثل الحديث الذي فيه: "إنّ الناس سيتّخذون رؤساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلُّوا وأضلُّوا". وهذه الحالة لا يزال الناس على الإسلام، ولكن ذهاب العلماء تدريجياً سبب وقوع الناس في الضلال لما أطاعوا رجالاً جهالاً.
(الثانية): مثل هذا الحديث الذي فيه: أنّ "لا إله إلاّ الله" تنجيهم من النار. وفيه أنّ أصل الإيمان وهو لا إله إلاّ الله بلفظها ومعناها باقٍ، ولكن جهل الناس الأحكام ومباني الإسـلام، فصاروا مثل الذين أسلموا قبل نزول الصلوات الخمس والصيام والحجّ، وهؤلاء سيكونون في مكان دون مكان في زمن دون زمن كما قاله بعض من تكلّم في معنى هذا الحديث. لأنّه ثبت أنّ طائفة من الأمّة لا تزال ظاهرة على الحقّ.
(الثالثة): الأحاديث التي تذكر ارتداد كثير من الأمّة إلى الشرك بالله مثل: "لا تقوم الساعة حتى تعبد اللات والعزى".
"لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة".
"لا تقوم الساعة حتى تلحق فئام من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان".
وأهل الإرجاء يظنُّون أنّ الذين تنجيهم "لا إله إلاّ الله" من النار من أولئك الذين ارتدّوا إلى الشرك وعبادة غير الله -لجهلهم بحقيقة الإسـلام- وهذه الردّة ستكون في مكان دون مكان وفي زمن دون زمن.
(الرابعة): الأحاديث التي فيها هبوب الريح لقبض أرواح المؤمنين وبقاء أهل الشر والكفر مثل حديث: "لا تقوم الساعة إلاّ على شرار الناس".
وحديث: "لا تقوم الساعة على أحدٍ يقول: الله الله".

الثانية استدلالهم بالحديث‹‹أُمرتُ أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله››

(الثانية) استدلالهم بالحديث:‹‹أُمرتُ أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله››
يستدلُّون بهذا الحديث في جدالهم عن أهل الشرك الناطقين بالشهادتين فيقعون في أخطاء فاحشة سأذكرها بإيجاز:
(الأول): يتجاهلون ما قيل عن آية التوبة التي يطابقُ معناها معنى الحديث. فقوله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: ‹‹أُمرتُ›› يشير إلى قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾ أو ﴿فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ فشرطت الآية شروطاً ثلاثة للكفّ عن المشرك:
1) التوبة من الشركِ وإنكارِ الرسالة.
2) إقامة الصلاة .
3) إيتاء الزكاة .
ولم يأت الحديث بشروط زائدة عمّا ذُكر في الآية وإنّما فسّر الآية مجرّد تفسير. وقوله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: ‹‹حتى يقولوا لا إله إلاّ الله›› معناه حتى يتوبوا من الشرك، لأنّ كلمة التوحيد وُضعت للبراءة والخروج من الشرك والدخول في الإسـلام والإخلاص.
وإليك ما قيل في تفسير الآية:
قال أنس رضي الله عنه:"توبتهم خلع الأوثان وعبادة ربِهم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة" [ابن جرير].
وقال قتادة: "إن تركوا اللات والعزى وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإخوانكم في الدِّين" [ابن جري].
وقال الإمام الطبري ﴿فَإِنْ تَابُوا﴾ يقول: "فإن رجعوا عما نهاهم عنه من الشرك بالله، وجحود نبوة نبيه محمد صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأنداد، والإقرار بنبوة محمد صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم . [جامع البيان].
وقال القرطبي: ﴿فَإِنْ تَابُوا﴾ أي عن الشرك والتزموا أحكام الإسلام. [الجامع لأحكام القرآن].
وقال ابن كثير: ﴿فإن تبتم﴾ أي عما أنتم فيه من الشرك والضلال. [تفسير القرآن العظيم].
فيُقال لأهل الإرجاء: هل الآية والحديث متّفقان في المعنى المراد أم مختلفان ومتعارضان؟
فإن قالوا: متّفقان. فقد حصل المطلوب وتبيّن أن لا وزن لشهادة المصرّ على الشرك حتى يعلن التوبة منه.
وإن قالوا: مختلفان ومتعارضان. يُقال لهم: إذا اختلفت الأدلّة وتعذّر الجمع فالعمل بالأثبت هو المتعيّن، والآية أقوى من الحديث من حيث الثبوت وإفادة العلم.
(الثاني): يتجاهلون الأدلّة الأخرى التي دلّت على أن إسلام المرء لا يتمُّ وهو يشرك بالله ويعبد غيره كقوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64].
وقوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 31].
والحديث: ››بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ. عَلَى أَنْ يُعْبَدَ اللهُ وَيُكْفَرَ بِمَا دُونَهُ ...‹‹. [متفق عليه].
والحديث: ‹‹من قال لا إله إلاّ الله وكفر بما يُعبد من دون الله حرُم ماله ودمه وحسابه على الله››. [مسلم].
والحديث: ‹‹الإسـلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً››.[متّفق عليه]
(الثالث): يتجاهلون أن الكفّار أصناف وأنّ منهم من يقول كلمة التوحيد في الكفر ومن لا يقولها إلاّ إذا أراد الإسلام. وأنّ علماء الإسلام فرّقوا بين هذه الأصناف ولم يقولوا أنّهم سواء في قبول كلمة التوحيد "لا إله إلاّ الله" منهم. (راجع أقوال الأئمة)
(الرابع): يتجاهلون أقوال العلماء شُرَّاح الحديث ‹‹أُمرتُ أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله››. فإنّهم بيّنوا أنّ الحديث خاصٌ بالوثنيين الذين كانوا يأبون في كفرهم قولَ "لا إله إلاّ الله" لاعتقادهم بالآلهة المعبودة من دون الله:
قال أبو سليمان الخطابي في قوله: ‹‹أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله›› "معلوم أن المراد بهذا أهل عبادة الأوثان دون أهل الكتاب لأنهم يقولون "لا إله إلا الله" ثم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف". [شرح مسلم: 1/206].
وقال القاضي عياض: "اختصاص عصمة المال والنفس بمن قال "لا إله إلا الله"تعبير عن الإجابة إلى الإيمان. وأن المراد بذلك مشركو العرب وأهل الأوثان، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفي في عصمه بقول "لا إله إلا الله" إذا كان يقولها في كفره"اﻫ. [شرح مسلم: 1/206].
قال الحافظ ابن حجر عند شرحه لحديث أبى هريرة: "وفيه منع قتل من قال "لا إله إلا الله" ولم يزد عليها وهو كذلك، ولكن هل يصير بمجرد ذلك مسلما؟. الراجح لا، بل يجب الكف عن قتله حتى يختبر. فإن شهد بالرسالة والتزم أحكام الإسلام، حكم بإسلامه. وإلى ذلك الإشارة بقوله "إلا بحق الإسلام" اﻫ. [فتح الباري: 12/279].
(الخامس): يتجاهلون أنّ كلمة التوحيد لها حقوق لا بُدّ من أدائها وإلاّ صارت كلمة جوفاء تُقال باللسان كذباً، وأنّ أول حقوقها إخلاص العبادة والطاعة لله، والعمل بالكتاب والسنة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وغير ذلك من الواجبات والابتعاد عن المحرّمات التي نهى الله عنها، يدلّ على ذلك قوله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: ‹‹إلاّ بحقّها››.
ولذلك لما تحرّج الصحابة عن قتال مانعي الزكاة الناطقين بكلمة التوحيد أقنعهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه بوجوب قتالهم لتركهم حقوقها، واستدلّ بقوله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: ‹‹إلاّ بحقّها››.
قال محمد بن إسماعيل الصنعاني: في (تطهير الاعتقاد) بعد أن بيَّن أن القبوريين الذين يعبدون الأولياء قد سلكوا مسلك المشركين. فإن قلت: لا سواء لأنّ هؤلاء قد قالوا "لا إله إلا الله" وقد قال النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: {أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا "لا إله إلا الله" فإذا قالوها عصموا منِّي دماءهم وأموالهم إلا بحقّها} قلت: قد قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم "إلا بحقِّها" وحقُّها إفراد الألوهية والعبودية لله تعالى، والقبوريون لم يفردوا هذه العبادة، فلم تنفعهم كلمة الشهادة، فإنها لا تنفع إلا مع التزام معناها. اﻫ

الحادية عشرة يقول بعض حُذاق المرجئة المعاصرة نحنُ لا نُنكر أنّ

(الحادية عشرة): يقول بعض حُذاق المرجئة المعاصرة: "نحنُ لا نُنكر أنّ الإسلام هو عبادة الله بالإخلاص وترك الشرك، ولكن نقول: إنّ الإخلاص وترك الشرك هو من شروط التوحيد الذي به نجاة العبد في الآخرة، وليس شرطاً في الإسلام الحكمي الذي تُجرى به أحكام الدنيا، ويدلُّ على ذلك أنّ المنافقين كانوا في الدنيا مسلمين مع عدم الصّدق والإخلاص، وهم في الآخرة كفّارٌ في الدرك الأسفل من النار".
والجواب: قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾ [آل عمران: 19]. فليس لله دينٌ للدنيا ودينٌ للآخرة.
وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85].
وقال تعالى: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]. أي: ورضيتُ لكم أن تعبدوا الله بالإخلاص وأن تتركوا الشرك به ديناً.
وقد دعا النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم إلى الإسلام، وأن يعمل أهل الدنيا كلّهم بهذا الدِّين الوحيد، فأبى البعض وأظهروا الكفر والشرك والبراءة من الإسلام، وهم "المشركون". وقبِل البعض وأظهروا الإخلاص وتركوا الشرك بالله وهم "المسلمون". والمنافقون أظهروا الإسلام والإخلاص وتركوا الشرك، فلم يتميّزوا عن المسلمين إلاّ بما يعلم الله من قلوبهم من كفرٍ يُخفونه، فصار لهم في أحكام الدنيا ما للمسلمين، ولكن يدخلون النار بما في قلوبهم من كفرٍ وبُغضٍ للحقّ وأهله.
أما الحكم على قومٍ يعبدون غير الله ويتّبعون كتاباً غير كتابه بالإسلام لأجل ألفاظٍ يطلقونها، وقد أنكروا معناها، والوصف بأنّهم في دين الله للدنيا فإفتراءٌ وتقوُّلٌ على الله، بل هو دينٌ جديدٌ اُبْتُدِعَ في آخر الزمان.
إنّ دين الله في الدنيا والآخرة هو "الإسلام" وهو ﴿أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾. ومن تولّى عن ذلك وأعرض فليس بمسلم: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64] ومن أظهره وأخفى كفره أجريت عليه أحكام المسلمين، لأنّه وافق الدِّين في ظاهر أمره.
وعندما يقول العلماء: "الإسـلام الحكمي" ويُفرِّقون بينه وبين الإسلام الحقيقي فإنّهم لا يُدخلون مُظهر الشرك العابد لغير الله في إطار "الإسـلام الحكمي" بل يجعلونه كافراً أصلياً أو مرتدّاً، ولا يقولون: "ثبت إسلامه الحكمي بالنطق بكلمة التوحيد، وشركه لا يؤثر في إسلامه" كما يقوله أهل الإرجاء، بل إنّ مرادهم من "الإسـلام الحكمي" هو ما يصير به المرء مسلماً في الظاهر، وهو قبول كلمة التوحيد لفظاً ومعنىً، وترك الشرك بالله والبراءة من كلّ دين خالف ذلك.
فالمؤمن الصادق صحّ إسلامه الحكمي لأنّه أظهر دين الله، أي: أظهر إخلاص العبادة لله وتركَ الشرك. والمنافق صحّ إسلامه الحكمي لأنّه أظهر دين الله، أي: أظهر إخلاص العبادة لله وتركَ الشرك. والعابد لغير الله لم يصحّ إسلامه الحكمي لأنّه لم يُظهر دين الله، أي أنّ المؤمن والمنافق يُظهران ديناً واحداً وإن اختلفا في الإيمان الباطن. فمدار النجاة في الدنيا هي إظهار الإخلاص وتركُ الشرك، ومدار النجاة في الآخرة هي تحقيق الإخلاص والبراءة من الشرك.
أما المشرك بالله الناطق بكلمة التوحيد فلم يصحّ إسلامه الحكمي لأنّه لم يُظهر "دين الله" الذي هو عبادة الله بالإخلاص، وإنّما أظهر "دين المشركين" الذين يعبدون مع الله غيره. وهذا ظاهرٌ بيِّنٌ إن شاء الله.
ولو كان الإسلام الحكمي يصحُّ من مشركٍ بالله لبيّن ذلك رسل الله الذين طلبوا من أقوامهم أن يقولوا: "لا إله إلاّ الله" فأجابهم الأقوام بأنّهم لا يتركون أبداً عبادة ما كانوا يعبدونه كقوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ. وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ﴾ [الصافات: 35-36].
﴿أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا﴾ [ص: 5]. ﴿وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ﴾ [هود: 53].
لم يقل لهم الرسل: قولوا "لا إله إلاّ الله" يصحّ إسلامكم وإن لم تتركوا الشرك، بل كانوا يقولون كما قال هود عليه السلام: ﴿قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ﴾ [هود: 54-55].
وقال إبراهيم عليه السلام: ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 81-82].
وقال محمد عليه الصلاة والسلام: ﴿قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 19].
ومن ذلك يتبيّن لك أنّ دين أهل الإرجاء المعاصر "دينٌ جديد" مخالفٌ لدين الرسل، وذلك الدِّين الجديد ليس الإخلاص وترك الشرك شرطاً في صحته كما صرحوا بذلك مراراً.
أما دين الرسل فهو الإخلاص وترك الشرك، وهم بريئون من كلّ عابد لغير الله.
قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ. لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ. وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [سورة الكافرون].
وفرقٌ بعيدٌ بين من دينه عبادة الله مع ترك الشرك، ومن ليست عبادة الله وترك الشرك شرطاً لصحة دينه.
فعبادة الله وحده لا شريك له والبراءة من أهل الشرك هي دينُ الرسل عليهم السلام. وعبادة الله مع الشرك وعدم البراءة من أهل الشرك هي دين المرجئة المعاصرة .. فليختر العاقل اللبيب لنفسه ما يراه سبباً لنجاته في الدنيا والآخرة. ﴿وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [النور: 46].

الخامسة أما استدلالهم بحديث أنس الذي فيه أن غلاماً من اليهود

(الخامسة) أما استدلالهم بحديث أنس الذي فيه أن غلاماً من اليهود كان مرض فأتاه النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: أسلم. فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، فأسلم. فخرج النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار} [البخاري وأحمد وأبو داود وأبو يعلى].
فلا حجّة لهم فيه، بل هو حجّة عليهم من وجهين:
(الأول): في هذه الرواية أنّه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عرض عليه الإسلام، أي طلب منه أن يسلم، والإسلام الذي يطلبه النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم هو الذي بيّنه بقوله: "الإسـلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً". وفي رواية أخرى: "فدعاه إلى الإسلام". وفي أخرى: "قال له: أسلم".
وفي رواية أخرى أنّه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قال له: "يا فلان قل: لا إله إلاّ الله". فدلّ ذلك على أنّ المراد من كلمة "أسلم"و المراد من كلمة"قل:لا إله إلاّ الله" واحد عند سلفنا، لأنّ المعنى الذي تحمله كلمة لا إله إلاّ الله هو عبادة الله بلا شريك. والإسلام هو: عبادة الله بلا شريك، فتطابقت العبارتان. وهذا هو المعروف في مصطلح أهل الحديث بالرواية بالمعنى وليس اختلافاً بين الروايات.
ومثله ما جاء في بعض الروايات أن الغلام أسلم. وجاء في بعضها أنه قال: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّك رسول الله. فعكس أهل الإرجاء القضية فقالوا: الإسلام هو النطق. ومعنى "أسلِمْ" هو قل كلمة التوحيد من غير تركٍ للشرك، وهذا من سوء فهمهم للأدلة. فإن قيل: الغلام لم يعمل عملاً ولم يتبرّأ من الشرك، بل نطق بالكلمة فمات فدخل الجنة.
فالجواب: الأولى أن يقال: أنّ الغلام بلغته الدعوة من قبلُ لأنّه كان خادم النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ويضع له وضُوءه ويُناوله نعليه، وأنّ النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم دعاه إلى الإسلام لما زاره دعوةً أخرى فأجاب وأسلم، ويدلُّ قوله:" أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّك رسول الله" على أنّه كان قد بلغته الدعوةُ وكان على علم بأنّ من أراد الدخول في الإسلام لابدّ له من قبول الشهادتين قولاً ومعنىً. ويدلّ على أنّه قد تاب من الشرك دخولُه الجنة، وقد حرّم الله الجنّة على من مات في الشرك.
قال تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ﴾ [المائدة: 72].
فالغلام كان مؤمنا عند موته ولم يكن مشركاً دخل الجنة بالنطق المجرّد. وقد ثبت في السنّة رجال آمنوا فماتوا لساعتهم فدخلوا الجنّة، كالذي قال عنه النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "عمِل قليلاً وأُجر كثيراً".
(الثاني): إنّ الغلام كان يهودياً وكان اليهود يقولون: "لا إله إلاّ الله" ولو مات قبل أن يسلم لدخل النار. فدلّ ذلك على أنّ من قال كلمة التوحيد في الشرك والكفر أنّه كافرٌ ولا ينقذه النطق من النار. ودلّ كذلك على أنّ المشركين الذين يقولون: "لا إله إلاّ الله" يُدعون إلى "شهادة أن لا إله إلاّ الله". مرّةً أخرى لكونهم قد أبطلوا قولهم بفعلهم الشرك كما جاء في حديث معاذ: "إنّك تأتي قوماً من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة إنّ لا إله إلاّ الله ..". وفي رواية: "أن يوحّدوا الله".

الرابعة أما إستدلالهم بحديث (قل لا إله إلاّ الله كلمة أشهد لك بها عند الله)

(الرابعة) أما إستدلالهم بحديث (قل لا إله إلاّ الله كلمة أشهد لك بها عند الله).
فالجواب: أنّ الحديث حجّة عليهم لأنّهم يقولون أنّ الإسلام هو النطق باللفظ، والحديث يدلّ على أنّ أبا جهل وصاحبه فهموا من قول النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم "قل: لا إله إلاّ الله". أنّه يريد ترك ملّة عبد المطلب ولا يريد النطق المجرّد.
ويدلّ على أنّ أبا طالب أبى أن يقول الكلمة لأنّه لم يكن يريد ترك الشرك، ويدلّ على أن أبا جهل أعمق فهماً للإسلام من العلماء اللفظيين المعاصرين، لأنّه فهِم أنّ الإسلام هو "ترك الشرك وتوحيد العبادة لله" وأنّ اللفظ وسيلة إلى هذا المعنى. أمّا اللفظيون فقد فهموا أن قبول اللفظ هو الغاية، فمن قال الكلمة فقد دخل في دين الله وإن كان يشرك بالله الشرك الأكبر.
قال الإمام محمد بن عبد الوهّاب: "فقبّح الله من أبو جهل أعلم منه بمعنى لا إله إلاّ الله".

السّابعة استدلالهم بحديث أنس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم

(السّابعة): استدلالهم بحديث أنس أنّ النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قال لرجلٍ: أسلم. فقال: أجدني كارهاً. قال: أسلم وإن كنتَ كارهاً". [أحمد/أبو يعلى].
فإنّ مرادهم أن يقولوا: "بما أنّ كراهية الحقّ كفرٌ فقد دلّ الحديث على أنّ من تكلّم بالإسلام يصحّ إسلامه وإن كان في الكفر والشرك، وليس الإسلام إلاّ التكلّم بكلمة التوحيد". والحديث لا يحتمل هذا المعنى وإنّما فيه:
أنّ النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم دعا رجلاً إلى الإسلام، والإسلام أكبر من التلفظ بالكلمة وإنّما هو: "أن تعبد الله وحده وتتبرّأ من كل دين خالف ذلك". فلما دعاه إلى الإسلام أخبره الرجل أنّه يجد في نفسه كراهية ونفرة من دخول الإسلام والبراءة من دينه القديم، فحرّضه النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم على الإسلام وأخبره بأنّ وجوبه عليه لا يسقطه شيءٌ، وليست الكراهية عذراً للبقاء على الكفر، وأمرهُ أن يُسلم على كلّ حال.
قال الإمام ابن كثيرعن هذا الحديث:" فإنه ثلاثي صحيح، ولكن ليس من هذا القبيل، فإنه لم يكرهه النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم على الإسلام، بل دعاه إليه، فأخبره أن نفسه ليست قابلة له، بل هي كارهة، فقال له: أسلم وإن كنت كارهاً، فإن الله سيرزقك حسن النية والإخلاص"
والحديث حجّةٌ على أهل الإرجاء لأنّه دلّ على أنّ النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم كان يطلب من أهل الشرك "أن يسلموا" أي: أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً، وأن يتبرّؤا من دينهم، ولذلك قامت العداوة والبغضاء بين الأنبياء وأتباعهم وبين المشركين، ويؤيد ذلك القرآن الكريم حيث ورد فيه أجوبة الكفّار عن دعوة الأنبياء كقوله تعالى: ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا﴾ [الأعراف: 70].
﴿قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [هود: 53].
﴿قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا﴾ [هود: 62].
﴿قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا﴾ [إبراهيم: 10].
﴿وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ﴾ [الصافات: 36].

الثانية عشرة قال أحدهم إنّ هذا الذي نقوله من كون النطق بكلمة

(الثانية عشرة): قال أحدهم: إنّ هذا الذي نقوله من كون النطق بكلمة التوحيد كافياً لإثبات الإسلام الحكمي وعدم اشتراط الإخلاص والبراءة من الشرك أمرٌ مجمعٌ عليه وقد ذكر هذا الإجماع أبو بكر ابن المنذر والنووي وأحمد ابن تيمية وابن رجب الحنبلي.
قال الأول: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أنّ الكافر إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، وأنّ كل ما جاء به محمدٌ حقٌّ، وأتبرّأ من كل دين خالف الإسـلام وهو بالغ صحيح يعقل أنّه مسلم، فإن رجع بعد ذلك فأظهر الكفر كان مرتدّاً".
قلتُ: هذا الذي أجمع عليه أهل العلم يردُّ عليكم ويُبطل دينكم المبتدع، وأصبحتم كما يُقال في المثل: "ولا تك كالشاة التي كان حتفها بحفر ذراعيها فلم ترضَ محفراً".
ألا ترى أنّهم يشترطون "البراءة من كل دين خالف الإسلام". والشرك بالله دينٌ خالف الإسـلام، لأنّ الله أمر أن يُقال لأهل الشرك: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾.
فلا بُدّ للإسلام الحكمي المطلوب من كلّ كافرٍ أن يكون في ظاهره بريئاً من دين الشرك مُظهراً للتوحيد. وقد صرحتم بأنّكم لا تشترطون الإخلاص والبراءة من الشرك في الإسـلام الحكمي، وتقولون لمن نطق بالكلمة أنّه مسلمٌ وهو يعبد غير الله، فثبت أنّكم على دينٍ غير الإسـلام الذي أجمعت عليه الأمّة .. فاتّقوا الله وتوبوا إلى بارئكم.
قال: قال النووي: "واتّفق أهلُ السنّة من المحدّثين والفقهاء والمتكلّمين على أنّ المؤمن الذي يحكم أنّه من أهل القبلة ولا يخلد في النار لا يكون إلاّ من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقاداً جازماً خالياً من الشكوك، ونطق بالشهادتين".
قلت:"ظاهرٌ من هذا الكلام أنه لا يكون مؤمنا من يظهرُ الشرك الأكبر وإن نطق بالشهادتين، لأنَّهُ عُرف: أنَّهُ على غير دين الإسلام الّذي هو:"أن تعبد الله ولا تُشرك به شيئا"، فالمؤمن الذي يحكم –في الدنيا- أنّه من أهل القبلة ولا يخلد في النار –في الآخرة- لا يكون إلاّ من اعتقد بقلبه دين الإسلام-أي عبادة الله وحده بلا شريك- اعتقاداً جازماً خالياً من الشكوك، ونطق بالشهادتين".فقوله مطابقٌ تماما للقول المجمع عليه الذي ذكره إبن المنذر.
قال: قال "الإمام ابن تيمية "(في درء تعارض العقل والنقل): "وهذا مما اتّفق عليه أئمة الدِّين وعلماء المسلمين فإنّهم مُجمِعون على ما عُلم بالاضطرار من دين الرسول صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: أنّ كلّ كافرٍ فإنّه يُدعَى إلى الشهادتين سواءً كان معطّلاً أو مشركاً أو كتابياً، وبذلك يصير الكافر مسلماً، ولا يصير مسلماً بدون ذلك. كما قال أبو بكر ابن المنذر".
قلتُ: كلامُه حقٌّ، فإنّ كلّ كافرٍ يُدعى إلى الشهادتين، ومرادُه قبول المعنى واللفظ. ولم يقل: إنّ المعطّل ينفعه التلفظ وهو على التعطيل، وأنّ المشرك ينفعه اللفظ وهو على الشرك، والكتابي ينفعه اللفظ وهو على اليهودية أو النصرانية. لا يجوز أن يُحمل كلام الشيخ إلى هذا المحمل لأسباب ثلاثة:
(الأول): أنّه استشهد بكلام ابن المنذر الصريح باشتراط البراءة مما خالف الإسـلام، فظهر أنّه يوافقه، مع العلم بأن مخالف الإجماع اختُلف في كفره. فلا يُظَنُّ بشيخ الإسلام أنّه خالف ما أجمع عليه المسلمون قبله.
(الثاني): أنّه بيّن في غير موضع أن الإسلام هو: أن تعبد الله وحده، وأن تعبده بشريعة محمّد صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ، وقال: هذا معنى الشهادتين.
قال في الفتاوى (1/310): "ودين الإسلام مبنى على أصلين، وهما‏:‏ تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله‏.‏ وأول ذلك ألا تجعل مع الله إلها آخر، فلا تحب مخلوقًا كما تحب الله، ولا ترجوه كما ترجو الله، ولا تخشاه كما تخشى الله".
والأصل الثاني‏:‏ أن نعبده بما شرع على ألسن رسله، لا نعبده إلا بواجب أو مستحب، والمباح إذا قصد به الطاعة دخل في ذلك‏.‏
وقال في صفحة (333): "فمعنا أصلان عظيمان، أحدهما‏:‏ ألا نعبد إلا الله‏.‏ والثانى‏:‏ ألا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بعبادة مبتدعة‏.‏ وهذان الأصلان هما تحقيق ‏(‏شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله‏)‏".
(الثالث): أنّه صرح بأنّ من لم يترك الشرك لم ينفعه التكلّم بالشهادتين.
جاء في فتاوى الإمام (ابن تيمية ) رحمه الله ما يأتي: ما تقول السادة العلماء أئمة الدّين رضي الله عنهم أجمعين في رجل قال: أشهد أنّ لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، ولم يصلّ ولم يقم بشيء من الفرائض، وأنه لم يضرّه ويدخل الجنّة، وأنّه قد حرم جسمه علي النّار؟
فأجاب: "إن لم يعتقد وجوب الصلوات الخمس، والزكاة المفروضة، وصيام شهر رمضان، وحجّ البيت العتيق، ولا يحرم ما حرم الله ورسوله من الفواحش والظلم والشرك والإفك فهو كافرٌ مرتدّ يُستتاب فإن تاب وإلاّ قُتل باتفاق أئمة المسلمين ولا يغني عنه التكلم بالشهادتين " .
"وإن قال: أنا أقرُّ بوجوب ذلك علي، وأعلم أنه فرض وأنّ من تركه كان مستحقاً لذم الله وعقابه لكني لا أفعل ذلك. فهذا أيضاً مستحق للعقوبة في الدنيا والآخرة باتفاق المسلمين .
ومن قال: أن كلّ من تكلّم بالشهادتين، ولم يؤدِ الفرائض ولم يجتنب المحارم يدخل الجنّة ولا يعذب أحدٌ منهم بالنّار: فهو كافرٌ مرتدٌّ يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلاّ قتل.
بل الذين يتكلمون بالشهادتين [أصناف] منهم منافقون في الدرك الأسفل من النار" [مجموع الفتاوى .م/35/ص: 105،106].
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل قال: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم «من قال لا إله إلاّ الله دخل الجنّة» وقال آخر: إذا سلك الطريق الحميدة واتبع الشرع دخل ضمن هذا الحديث. وإذا فعل غير ذلك ولم يبال ما نقص من دينه وزاد في دنياه لم يدخل ضمن هذا الحديث. قال له ناقل الحديث: أنا لو فعلت كلّ ما لا يليق، وقلت لا إله إلاّ الله :دخلت الجنّة ولم أدخل النّار ؟
فأجاب رحمه الله: الحمد لله ربّ العالمين. من اعتقد أنّه بمجرّد تلفظ الإنسان بهذه الكلمة يدخل الجنّة ولا يدخل النّار بحال فهو ضالّ مخالف للكتاب والسنّة وإجماع المؤمنين فإنّه قد تلفظ بها المنافقون الذين هم في الدرك الأسفل من النّار وهم كثيرون، بل المنافقون قد يصومون ويصلّون ويتصدقون ولكن لا يتقبل منهم [ثم أخذ في سرد الأدلة من الكتاب والسنّة] [مجموع الفتاوى.م35/ص:201-202].
قال: وقال ابن رجب في (جامع العلوم والحِكم) عند حديث: أُمرتُ أن أُقاتل الناس.. : "ومعلومٌ بالضرورة أنّ النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم كان يقبَلُ من كل من جاءه يريد الدخول في الإسلام الشهادتين فقط، ويعصم دمه بذلك ويجعله مسلماً".
قلتُ: هذا صحيحٌ، ولكن ما معنى قوله: "يريد الدخول في الإسـلام"؟؟. معناه: يريد أن يعبد الله ولا يشرك به شيئاً، ويعبده بشريعة محمّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم. وكل من أراد ذلك فقد برئ من دينه القديم، سواءً كان وثنيةً أو يهوديةً أو نصرانيةً أو مجوسيةً أو ردّةً عن الإسـلام. فكل من جاء يريد أن يعبد الله ولا يشرك به شيئاً، ويعبده بشريعة محمّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فلا يُطلب منه أكثر من الشهادتين لاعتقاد إسلامه.
ولكن معنى قوله: "يريد الدخول في الإسلام" عندكم هو: "يريد النطق بكلمة الشهادة وإن لم يترك الشرك". ولأجل هذا الانحراف الفكري تُخطئون فهم كلام العلماء كما أخطأتم قبل ذلك في فهم الكتاب والسنّة.
ويدلُّ على أنّ ابن رجب يُوافقنا ويُخالفكم أنّه قال في نفس الكتاب: "وقد يترك دينه ويفارق الجماعة وهو مقرٌّ بالشهادتين ويدّعي الإسلام كما إذا جحد شيئاً من أركان الإسلام أو سبّ الله ورسوله أو كفر ببعض الملائكة أو النبيين أو الكتب المذكورة في القرآن مع العلم بذلك". (ص: 205)
فتبيّن أنّ الإسلام –عند ابن رجب- ليس مجرّد الإقرار بالشهادتين، وأنّ المقرّ قد يثبت له إسلام وقد لا يثبت. والله أعلم. والحمد لله ربّ العالمين
أقول: يتبيّن من أقوال أئمة الإسلام الموافقة للنصوص القرآنية والسنّة النبوية ما يأتي:
أولاً: إذا قال الوثني "لا إله إلاّ الله" فقد أجمعوا على وجوب الكفّ عن قتله، ثمَّ منهم من يصرح بأنّه قد صار مسلما بذلك كالشافعي ومحمَّد بن الحسن والبغوي وغيرهم، ومنهم من يقول لا بُدّ من اختباره فإن شهد بالرسالة والتزم أحكام الإسلام حُكم بإسلامه كما قاله الطحاوي و ابن حجر وأيَّده الشوكاني.ويمكن حمل هذا الإختلاف على إعتبار إختلاف أحوال النَّاس والقرائن المصاحبة وملابسات الواقع.
ثانيا: إذا قال الكتابي "لا إله إلاّ الله محمد رسول الله" فقد أجمعوا على وجوب الكفّ عن قتله، أما اعتباره مسلماً فقد فرّقوا بين من يكون بهذا القدر من الإقرار مسلماً ومن لا يكون لكونه لا يدخل بهذا الإقرار الإسلام ولا يلتزم به شريعة الإسلام.
ثالثا: إذا قال مُدّعي الإسلام الذي لم يكن كفره بإنكار الشهادتين ولكن بوقوعه في كفرٍ وشركٍ وامتناعٍ عن فعل الواجبات أو ترك المحرّمات أو غير ذلك من أنواع الكفر: "لا إله إلاّ الله محمد رسول الله" فقد أجمعوا على أنّه لا يكون مسلما بالإقرار بالشهادتين حتى يرجع ويتبرّأ من الكفر، وهذا ما نقول به ولله الحمد.
رابعاً: لا أصل للمقالة المنحرفة التي يعتقدها الضُّلاّل في الكتاب والسنّة وأقوال الأئمة، وأعني قولهم: اعتبار المقرّ بالشهادتين مسلماً دائماً وإن كان يشرك بالله الشرك الأكبر وإن كان يوالي الكفرة ويُقدِّم شرائعهم الوضعية على الكتاب والسنّة.
وكلّ ما اُستُدلّ لهذه الفكرة المنحرفة من أقوال لأهل العلم فاعلم أنّها أقوالٌ يضعونها في غير مواضعها عن جهل وغفلةٍ أو عن قصدٍ وكتمانٍ للعلم.
خامساً: وقول العالم في ذاته ليس حجةً مستقلّة يُحتجُّ بِها، بل هو يحتاج إلى حجّة تصدّقه. وأنا قد سردتُ من الأقوال ما يوافق الأدلّة أو يفسّرها، وذلك كي لا ينخدع طالب الحقّ بالأقوال المتشابهة التي تُنسب إلى الأئمة والتي يُستدلّ بها لإثبات مبادئ معارضة لما دلّت عليه الآيات والأحاديث.
فمن فهم هذه الأقوال التي أثبتُّها عرف أنّ من قال من العلماء مثلاً: "إن قول "لا إله إلاّ الله" تجعل الكافر مسلماً والعدوّ ولياً". أو قال: "إنّ الأمة أجمعت على أنّ قول لا إله إلاّ الله يُدخل بها في الإسلام". أو قال: "أنّ أهل "لا إله إلاّ الله" لا يجوز تكفيرهم". وما أشبه ذلك عرف أنّ هذه الاطلاقات الَّتى تردُ في كلام العلماء تحتاج إلى التقييدات الثابتة في أقوالهم الأخرى،ومن الأمانة جمع الأقوال والتوفيق بينها لا بترها وأخذ ما يوافق الهوى.
(والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم).

السادسة أما استدلالهم بحديث الأَمّة السوداء

(السادسة) أما استدلالهم بحديث الأَمّة السوداء التي سألها النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنتَ رسول الله. قال: اعتقها فإنّها مؤمنة؟.
فالجواب: أنّ هذا الحديث حجّة عليهم من جانبين، وفيه شبهة يضلّ بِها أهل الغفلة تحتاج إلى بيان. فهو حجّة عليهم:
(أولاً): لم يكتفِ النبيّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم من الأَمّة بما تدّعيه من الإسلام بل أمرها فأُحضرت لتمتحن هل صحّ إسلامها أم لم يصحّ، وقد وقع ذلك في دار الإسلام في مدينة النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم. وهم ينكرون دعوة أهل الشرك المجاهرين بشركهم إلى التوحيد ونبذ الشرك، وتمييز من صحّ إسلامه ممن لم يصحّ. ويقولون: "هم أسلموا بالنطق مع شركهم ويدخلون الجنّة بما معهم من الإيمان" فتبيّن بُعدهم عن منهج النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم.
(ثانياً): ليس في الحديث -أو في أكثر رواياته- أنّه سأله عن التوحيد. فنقول لهم: "أين الحدّ الأدنى الذي قلتم أنّه لا أدنى منه؟؟".
فإن قالوا: يصحّ إسلام من لم يقل: "لا إله إلاّ الله" فقد أبطلوا الحدّ الأدنى الذي حدُّوه بقولهم: "إنّه النطق بكلمة التوحيد". وإن قالوا: توجد رواية تُفسّرها وفيها أنّها سُئلت: أتشهدين أن لا إله إلاّ الله. فقد تمّ المطلوب، وثبت أنّها قبلت كلمة التوحيد لفظاً ومعنىً، لأنّ أهل الشرك في ذلك الزمن لم يكونوا يقولون: "لا إله إلاّ الله" إلاّ عندما يريدون الانتقال من دين الشرك إلى دين التوحيد والإسـلام.
أما الشبهة التي يقع بِها أهل الغفلة فهي قولهم: أنّ الحديث يدلّ على أنّ الكافر إذا علم أنّ الله في السماء وأنّ محمّداً رسول الله يكفيه ذلك في الدنيا والآخرة، وإن كان متلبساً بالكفر والشرك. وقد أوقعهم في هذا الضلال غفلتهم عن أمرين ظاهرين:
(الأول): أنّ فرعون كان يعلم أنّ الله في السماء كما دلّ على ذلك قوله تعالى: ﴿يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ. أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا﴾ [غافر: 36-37].
مع قوله تعالى: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلاّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ﴾ [الإسراء: 102].
وقوله تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النمل: 14].
فقد بلغته دعوة موسى عليه السلام وأنّه رسول أرسله الله الذي في السماء، فعلم أنّ ذلك حقّ ولكنّه عاند واستكبر.
ففرعون عرف أنّ الله في السماء وأنّ موسى رسول الله ولم يدخل في الإسلام بهذا القدر لاستكباره عن الخضوع لله وعدم براءته مما خالف دين الإسلام.
(الثاني): أنّ توحيد الله ونفي الشركاء عنه من أظهر شعائر الإسـلام، ومن المعلوم من الدِّين بالضرورة ولا يجهل ذلك أحدٌ في دار الإسلام، وهو كظهور الصلاة والصيام أو أعظم منه.
فالأَمّة السوداء إذاً كانت تعيش في مجتمع المدينة الذي يجاهد أهل الشرك لشركهم وكانت تعرف شخص رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم وتعلم أنّ الله أرسله فإنّ هذا القدر يكفي لمعرفة إسلامها، لإنّ إقرارها بأنّه رسول الله مع اشتهار ما جاء به من التوحيد وترك الشرك حتى علمه من كان في الشام واليمن أغنى عن الإكثار من الأسئلة، بل العادة أنّ مستور الحال في دار الإسلام يحمل على أنّه مسلمٌ إذا كانت أمارة الإسلام بادية منه.
قال الخطابي في المعالم: "قوله أعتقها فإنها مؤمنة ولم يكن ظهر له من إيمانها أكثر من قولها حين سألها:" أين الله". قالت: "في السماء" ، وسألها: "من أنا". فقالت: "رسول الله" صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، فإن هذا سؤال عن أمارة ايمان وسمة أهله وليس بسؤال عن أصل الإيمان وحقيقته. ولو أن كافراً جاءنا يريد الانتقال من الكفر إلى دين الإسلام فوصف من الإيمان هذا القدر الذي تكلمت الجارية لم يصر به مسلماً حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويتبرأ من دينه الذي كان يعتقده، وإنما هذا كرجل وإمرأة يوجدان في بيت فيقال للرجل من هذه المرأة فيقول زوجتي فتصدقه المرأة فإنا نصدقهما ولا نكشف عن أمرهما ولا نطالبهما بشرائط عقد الزوجية حتى إذا جاءانا وهما أجنبيان يريدان ابتداء عقد النكاح بينهما فانا نطالبهما حينئذ بشرائط عقد الزوجية من إحضار الولي والشهود وتسمية المهر، كذلك الكافر إذا عرض عليه اسلام لم يقتصر منه على أن يقول إني مسلم حتى يصف الإيمان بكماله وشرائطه، فإذا جاءنا من نجهل حاله في الكفر والإيمان فقال إني مسلم قبلناه وكذلك إذا رأينا عليه أمارة المسلمين من هيئة وشارة ونحوهما حكمنا بإسلامه إلى أن يظهر لنا خلاف ذلك" انتهى.

العاشرة استدلالهم بحديث أنس كان يغير عند صلاة الصبح

(العاشرة): استدلالهم بحديث أنس: "كان يغير عند صلاة الصبح، وكان يستمع ،فإذا سمع آذانا أمسك وإلا أغار".
وسبب نزول قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ [النساء: 94]. الذي قال: السلام عليكم.
والجواب: إنّ أهل الكفر متنوّعون في عقائدهم وليسوا نسخة واحدةً.
منهم "الدهريون" الذين ينكرون وجود إلهٍ متصرّف في الكون
ومنهم "مشركون" يعلمون أنّ الله فاطر السماوات والأرض ولكن يشركون به مخلوقات يعبدونها معه، وكان هؤلاء ينكرون قول "لا إله إلاّ الله" لاعتقادهم بآلهتهم الكثيرة، أما أعمالهم فكثير منها كانت من بقايا دين إبراهيم عليه السلام مثل الحجّ والعمرة والطواف والسعي والتلبية وسوق الهدي ومعرفة أشهر الحجّ وأشهر الحرم. وعندما جاءتهم دعوة الإسلام أبوا الانتقال من دينهم إلى الدِّين الجديد، ولذلك رفضوا قول "لا إله إلاّ الله" إذا كانوا يعلمون أنّ المراد منها إنّما هو: ترك الآلهة وعبادة إلهٍ واحد، فأصبحت الشعائر الإسـلامية في حقّهم قسمين:
(الأول): ما لا يدلّ على إسلامهم لكونهم كانوا يفعلونها في كفرهم مثل الحجّ والعمرة وأعمال الحجّ وغيرها .. ولذلك مُنعوا من الحجّ وهم يريدون أداءه في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [التوبة: 28]. فدلّت الآية على أنّ طاعات المشركين مردودةٌ عليهم حتى يسلموا أي: "يعبدوا الله وحده لا شريك له".
وهذه حجّةٌ على أهل الإرجاء الذين يظنّون أنّ صلاة وصيام وحجّ أهل الشرك صحيحة.
(الثاني): الشعائر التي كانت دالّة على إسلامهم لكونهم لم يكونوا يفعلونها في الشرك وإنّما كان يفعلها من اتّبع النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم مثل: قول: لا إله إلاّ الله والصلوات الخمس وتحية الإسلام "السلام عليكم ورحمة الله" والآذان للصلوات وغير ذلك. وهذه الشعائر إذا أظهرها الوثنيون كانت تدلّ على أنّهم خرجوا من دينهم إلى دين الإسلام، فكان واجباً على المسلمين أن يكفّوا عنهم حتى يعلموا حقيقة أمرهم . وقوله تعالى: ﴿فتبيّنوا﴾ فيه أمرٌ بالتمهّل وطلب الحقيقة.
وأهل الإرجاء يُطلقون القول ويقولون: "الآذان يدلّ على إسلام البلد". فإن قيل فما قولكم في حكم مدينة "نيروبي" و "أدِس أبابا" قالوا: ديار كفر مع ظهور الآذان فتناقضوا.
والقول الحقّ هو: إذا كان أهل البلد لم يكونوا يؤذّنون في كفرهم فأظهروا الآذان فهي علامةٌ توجب الكفّ عن القتال وتوجب التبيّن وطلب الحقيقة. وإذا كانوا يؤذنون وهم في الشرك الأكبر فليس آذانهم دليلاً على إسلامهم، بل يقاتَلون حتى يرجعوا عن كفرهم الذي جعلهم كفاراً. ويكون إظهار الآذان في الكفر كإظهار الحجّ في الكفر، إذ ثبت بالأدلّة القطعية كون أعمال أهل الشرك مردودة عند الله.
ومن الكفّار من ثبت كفره وهم ينطقون بالشهادتين، كبعض فرق أهل الكتاب والذين ظهروا في حياة الصحابة كبني حنيفة ومانعي الزكاة والسبئية الذين حرّقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد أجمع المسلمون على كفر أولئك، وأنّ الشهادتين ليستا موجبتين لإسلامهم أو وجوب الكفّ عنهم، فتدبّر ذلك فليس دين الإسلام دين ألفاظ، وإنّما هو دين اعتبار المعنى الذي يحمله اللفظ. والألفاظ إنّما تُعتبر إذا أُريد بِها معانيها، فإن تجرّدت عن المعنى فهي عديمة الوزن.
ويدلّ على صحة ما قلنا أنّ أهل العلم والفقه كانوا يفرّقون بين الوثنيّ الذي قال: "لا إله إلاّ الله" فأجمعوا على وجوب الكفّ عنه. والكتابيّ الذي قال: "لا إله إلاّ الله" فقالوا: لا يُرفع عنه السيف حتى يُقرّ بالرسالة. والمرتدّ الذي قال: "لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله". قالوا: لا يُرفع عنه السيف حتى يرجع عما اعتقده، كما قال أبو بكر: "والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم لقاتلتهم على منعه !!".
فانظر إلى ذلك ثلاثة رجال كلّ منهم قال: "لا إله إلاّ الله" ومع ذلك لا يُعامَلون بمعاملة واحدة، لأنّ الأول: إذا قال الكلمة جرت العادة على أنّه يترك الشرك ويتّبع النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم.
والثاني: كان يقول الكلمة وهو منكر لرسالة النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فلم تعُد كلمته دالةً على إسلامه.
والثالث: كان يقول الكلمة ويدّعي الإيمان بالرسالة وهو منكرٌ لبعض ما جاء به النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم.
فاعتبار المعنى وعدم الجمود على اللفظ هو الصواب.
وقال أبوسليمان الخطابيّ عند حديث أنس: "كان يغير عند صلاة الصبح ،وكان يستمع ،فإذا سمع آذانا أمسك وإلا أغار":
قلت:"فيه من الفقه أنَّ إظهار شعائر الإسلام فى القتال وعند شنِّ الغارة،يحقنُ به الدم، وليس كذلك حال السلامة والطمأنينة الَّتى يتَّسع فيها معرفة الأمور على حقائقها، واستيفاء الشروط اللازمة فيها" (معالم السنن)


اخبر صديق

Kenana Soft For Web Devoloping