(الأولى) الإسلام دين الفطرة: قد فطر الله الناس على الإسلام وإخلاص العبادة له، وأخذ منهم العهد والميثاق على ذلك كي لا يعتذروا بالجهل والتقليد للآباء:
قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ، وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الأعراف: 172-174]
وقال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: 30]
عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم ، قال: يقول الله لأهون أهل النار عذاباً لو كانت لك الدنيا وما فيها أكنت مفتدياً بها؟ فيقول: نعم، فيقول: قد أردتُ منك أهون من ذلك وأنت في صلب آدم، أن لا تشرك فأبيت إلاّ الشرك" (مسلم)
وعنه أيضاً مرفوعاً: ما من مولود إلاّ وهو على الملّة حتى يبيّن عنه لسانه" (متَّفق عليه)
وعن عياض بن حمار رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه قال: وإنّي خلقتُ عبادي حنفاء كلّهم وإنّهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرّمت عليهم ما أحللتُ لهم" (مسلم)
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "إنّ الله مسح صلب آدم فاستخرج منه كلّ نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فأخذ منهم ميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً " (الطبرى).
(الرابعة) طريقة المواجهة:
طريقة مواجهة أهل الشرك والضلال بالحق المبين بيّنها القرآن كثيراً وعرض قصص الأنبياء للاقتداء والاعتبار.
قال تعالى:﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ﴾ [يوسف: 111].
وقال تعالى: ﴿وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [هود: 12].
وطريقة الرسل في مواجهة أهل الشرك والضلال تتلخص في مواقف ثلاثة:
(ثالثاً) بيانُ مذهب الصحابة والتابعين
(القرن الأول):
يظهر مذهب الصحابة وتابعيهم، وكونُهم منقادين لما دلَّت عليه نصوص الكتاب والسنَّة من عدم إعذار أهل الجهل فى أصل الدين، من عدَّةِ أوجه:
(الوجه الأول):
1) ثبت أنَّهم لم يكونوا يُفرِّقون بين أهل الشرك جاهلهم و معاندهم، وإنَّما كانوا يضعونهم جميعاً منْزلة واحدة.
ومما هو من المعلوم من سيرتهم فى الجهاد أنَّهم كانوا يكاتبون الملوك والقادة ويدعونهم إلى الإسلام، فإن أبوا عرضوا عليهم الجزية، فإن أبوا قاتلوهم، فإذا غلبوهم استباحوا نساءهم وذراريهم، ولم يكن منهم من يقول: "إنَّ النساء والذرارى لاذنب لهم ول ارأي له فى الحرب والسلم"، فدلَّ ذلك على أنَّهم كانواعلى قول واحد مستند إلى الكتاب والسنَّة.
(الوجه الثانى)
1) أجمع الصحابة على كفر أتباع مسيلمة الكذاب، مع علمهم بأنَّهم جهال مخدوعون، خدعهم قارؤهم "الرجَّال" وكانوا يحسبون أنَّهم مهتدون، وقد قال أحدهم، وهو جريح، لمَّا سمع بمقتل "مسيلمة": "نبيٌّ ضيعه قومه"، ومع هذا لم يُعذروهم بالجهل مع ظهوره، بل كان أبو بكر يأمر بقتل كلِّ من قدر على القتال.
2) وأجمعوا كذلك على قتال مانعى الزكاة، وكان أكثرهم أهل جهل وتقليد لأئمَّة الضلال،وكان منهم من يتأوَّلُ قوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ ويقولُ إنَّ الخطاب للنَّبيِّ صلّى الله عليه وسلم لا لأبى بكر.
(الوجه الثالث)
1) قال أبيّ بن كعب رضي الله عنه ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ﴾ قال: "وكذلك الكافر يجئ يوم القيامة، وهو يحسب أنَّ له عند الله خيراً، فلا يجد، فيدخله النَّار" (تفسيرالطبرى)
2) وقال ابن عبَّاس رضي الله عنه فى قوله ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ﴾: "الكافر كذلك يحسب أنَّ عمله مغنٍ عنه، أو نافعه شيئا، ولا يكون آتيا على شيء حتى يأتيه الموت، فإذا أتاه الموت لم يجد عمله أغنى عنه شيئا، ولم ينفعه إلا كما نفع العطشان المشتدّ إلى السراب" (تفسيرالطبرى)
وقال فى تفسير قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاّ أَمَانِيَّ﴾: "يعنى: غير عارفين بمعانى الكتاب"
وقال فى تفسير قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾: اليهود.
3) عن أبى عمران الجوني قال: مرَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بدير راهب، قال: فناداه: يا راهب! يا راهب! فأشرف، قال: فجعل عمر ينظر إليه و يبكى، فقيل له: يا أميرالمؤمنين، ما يبكيك من هذا؟، قال: ذكرت قول الله عزَّوجلَّ فى كتابه"عاملة ناصبة، تصلى نارا حامية"، فذاك الّذى أبكانى، (رواه البرقانى).
(ثانياً) بيان ُالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم للمسألة
(ثانياً) بيان ُالنَّبيِّ صلّى الله عليه وسلم للمسألة:
بيَّنت سنَّة النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلم هذه المسألة بيانا واضحا صريحا كبيان القرآن لها، بحيث لا تختلف فيه الأفهام إذا تجرَّدت لله و لم تخضع للهوى، وذلك من وجوه كثيرة، نختار منها بعضها:
(الوجه الأول):
1) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان)، وفى رواية: "بُني الإسلام على خمسٍ على أن يُعبدَ الله ويكفر بما دونه وإقام الصَّلاة وإيتَاء الزّكاة وحجّ البيت وصوم رمضان".
2) عن أبى هريرة رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله"، [مسلم]
3) عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: " الإسلام أن تعبد الله لا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان)، [متفق عليه]
4) عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه : أنه جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم رجل فسأله عن الإسلام فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : خمس صلوات
في اليوم والليلة وصيام رمضان) وذكر له الزكاة، [متفق عليه]
5) عن بهز بن حكيم: أن النبي صلّى الله عليه وسلم سُئل عن آيات الإسلام فقال أن تقول أسلمت وجهي وتخليت وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة)، [النسائي]
6) وأخرج النسائي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم)، [النسائي]
7) عن عبد الله بن عمر قال: (قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى).
8) عن أنس: (أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا وصلوا صلاتنا حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها)
ولفظ البخاري: (من شهد أن لا إله إلا الله واستقبل قبلتنا وصلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ما للمسلم وعليه ما على المسلم).
9) وثبت كذلك أنَّهُ صلّى الله عليه وسلم قال: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبدُ من دون الله حَرُمَ ماله ودمُه وحسابُه على الله عزّ وجلّ".
بيَّن النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلم فى هذه الأحاديث وغيرها شروط الدخول فى دين الإسلام، والَّتى لا يكون أحدٌ مسلماً مؤمناً بدون تحقيقها، وهي:
(أولا) أن يعلم علم يقين بأنَّ الله إلهٌ وربٌّ واحدٌ لاشريك له فى الألوهية والربوبيَّة.
(ثانيا) أن يعبد الله مخلصا له الدين وأن يكفر بكلِّ ما يعبدُ من دون الله ويتوب من كلِّ أصناف الشرك والكفر.
(ثالثا) أن يؤمن بملائكة الله وكتبه ورسله واليوم الآخروالقدر خيره وشرِّه.
(رابعا) أن يؤمن بالنَّبيِّ الأخيرمحمَّد صلّى الله عليه وسلم ، وأن يعبدالله بالشريعة المنَزلة عليه، ويُقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويفعل ما يجبُ عليه ويجتنب ما يحرم عليه.
فدلَّ هذا البيان النبويِّ -كما دلَّ القرآن- على أنَّ من لم يأتِ بهذه الشروط لايكون مسلما ولامؤمنا، بل يكون كافرا جاهلا أو كافرا معاندا، ومن أدخل فى الأمَّة المسلمة من ليس منها، ممن لم يُحقِّق شروط العضوية الَّتى شرطها الله فى كتابه، كالذين يقولون: "إنَّ المشرك إذا كان جاهلا غير معاند فهو مسلم ولا يجوز تكفيره"، من قال ذلك فقد ردَّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلم قوله، وكفر بما أنزل عليه.
إنَّ كلَّ شئ له تعريف، والغرضُ منه الجمعُ والمنعُ، أي أن لا يكون بعضُ هذا الشئ المعرَّفِ خارجاً منه، وأن لا يكون ما ليس منه داخلا فيه بعد التعريف، فإذا قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلم مثلا: "الإسلام أن تعبد الله لا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان)، [متفق عليه]
فتعريفه للإسلام جامع مانع، فيكون كلُّ من يُشرك بالله جهلا أو عنادا خارجاً من "أهل الإسلام"، وإلا لم يكن للتعريف فائدة، ولجازأن يوضع للإسلام تعريف آخرويُقال: "الإسلامُ أن تُشرك بالله جهلا!"، وهذا ظاهر الفساد، ولا يقول به مسلمٌ إن شاء الله.
(الوجه الثانى)
1) عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: "من بدل دينه فاقتلوه" (رواه البخاري).
2) وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: "لما بعثه النبي صلّى الله عليه وسلم إلى اليمن ثم أتبعه معاذ بن جبل فلما قدم عليه ألقى إليه وسادة وقال: انزل، وإذا رجل عنده موثق، قال: ما هذا؟ قال: "كان يهوديا فأسلم ثم تهوَّد"، قال: اجلس، قال: لا أجلس حتى يقتل قضاء الله عزّ وجلّ، وقضاء رسوله صلّى الله عليه وسلم ثلاث مرات فأمر به فقتل، [متفق عليه].
زاد أبو داود بعد قوله: " فقتل": " وكان قد استتيب قبل ذلك"
وفي رواية له: " عشرين ليلة"
هذان الحديثان يدلَّان على أنَّ حدَّ الردَّةِ عن الإسلام القتلُ، سواء كان المرتدُّ معاندا مختارا للكفر، على علم بضلاله، أو كان جاهلا مفتونا بشبهات الكفار، لأنَّ قوله صلّى الله عليه وسلم: "من بدَّل" يدلُّ على ذلك، لكون "مَن" مِن ألفاظ العموم، كما أنّ قوله صلّى الله عليه وسلم: "أمرتُ أن أقاتل الناس" يدلُّ على عموم النَّاس، فلا يدخل فى الإسلام أحدٌ إلا من استكمل الإقرار، فاستوى فى ذلك المعاندون والجاهلون الَّذين يحسبون أنَّهم مهتدون،
(الوجه الثالث)
1) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيّةِ يَصِلُ الرّحِمَ، وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ؟ قَالَ: "لاَ يَنْفَعُهُ، إِنّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْماً: رَبّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدّينِ"، [مسلم].
2) عَنْ أَنَسٍ أَنّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ الله أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: "فِي النّارِ" فَلَمّا قَفّى دَعَاهُ فَقَالَ: "إِنّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النّارِ"، [مسلم].
3) عن حذيفة بن اليمان أنَّه قال: يا رسول الله إنَّا كنَّا فى جاهلية وشرٍّ، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شرٍّ؟" (البخاري) وفيه أنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلم أقرَّه على قوله ولم يزجره عنه.
ففى هذه الأحاديث وأمثالها دلالة بيِّنةٌ على أنَّ الَّذين لم يُدركوا دعوة النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلم وماتوا قبله كانوا على الكفر والجاهليَّة، وأنَّهم من أهل النَّار، ولم يكونوا معذورين بالجهل عند الله.
وقد قال بعضُ العلماء بمقتضى دلالة هذه الأحاديث، ونفوا وجود أهل الفترة وأثبته بعضهم كما سيأتى بيانه إن شاء الله فى آخر الرِّسالة.
ومحلُّ الإستدلال هو: إذا لم ينجُ أهلُ الجاهلية الأولى، الَّذين قال الله عنهم: ﴿وَمَا آَتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ﴾ [سبأ: 44]. فكيف يصحُّ القول بنجاة المشركين المعرضين عن القرآن المحفوظ، وإعذارهم بالجهل !!؟.
(رابعاً) بيانُ مذهب علماء الأمَّة:
قبل عرض أقوال العلماء، الفقهاء والأصوليين، أريد أن أنبِّه القارئ على بعض الأمور كمقدّمة، كي يقدرعلى التمكن من فهم العبارات والإصطلاحات الواردة فى كلامهم، فأقول:
1) قسموا الجهل إلى قسمين:
(ا) جهلٌ بسيطٌ: وعرَّفوه بأنَّه: عدم الشعور بالشئ.
(ب) جهلٌ مركبٌ: وعرَّفوه بأنَّه: إعتقاد الشئ على غير ما هو عليه، فعدم العلم بالشئ جهلٌ، وإعتقادُ خلافه جهلٌ آخر، فصار مركبا من جهلين.
2) لاتختلف عبارات العلماء من أهل السنَّة وغيرهم فى أنَّ الكافر الجاهل أوالمعاند لا يصحُّ إسلامه حتى يقرَّ بالتوحيد والرسالة عن علم.
3) عندما يقولون: "مسائل الأصول" أو "العقليات"، فمرادهم: المسائل المتعلِّقة بأصل الدين والعقائد، وقد قسموها إلى قسمين:
(الأول) ما وقع الإختلاف فيه بين أهل الإسلام وأهل الملل الكافرة، كمسألة الإيمان ووحدانية الله والرسالة والإيمان بحدوث العالم، وكونه من صنع الله العليم الحكيم، وهم متَّفقون -كما سترى- على أنَّ جاهلها كافر فى الدنيا وإن لم تبلغه رسالة من الله.
(الثانى) ما وقع الإختلاف فيه بين أهل الإسلام، فصار به بعضهم مبتدعة، كمسألة الرؤية وأفعال العباد وخلق القرآن، وغير ذلك، واتَّفقوا على أنَّ الحقَّ فى واحد من أقوال المجتهدين وما عداه فضلالٌ وباطل، وقد يُطلق بعضهم "مسائل الأصول" ومرادهم "مسائل أصول الفقه" كحجيَّة الإجماع والقياس وخبر الواحد.
4) ويذكر عن بعض رجال المعتزلة أنَّهم خرقوا الإجماع على هذه المسألة مثل: "عبيدالله بن الحسن العنبرى" -وروي أنَّه قد تاب منها- والجاحظ وأمثالهم ممن يذكر ببدعة، وهم محجوجون بالإجماع قبلهم وبعدهم، وهم مع خلافهم لم يقولوا: إنَّ جاهل هذه المسائل مسلمٌ فى الدنيا، بل صرح من صرح منهم أنَّه فى الدنيا يُعاملُ معاملة الكفار لأمر الشرع بذلك، وإنَّما رفعوا عنه الإثم أو العذاب فى الآخرة، وكثيرٌ من العلماء ينكرون أن ينسب ذلك إلى عبيد الله العنبرى، ويقولون: لم يقل بتصويب جهال الكفار،وإنَّما كان يعنى المختلفين من المسلمين فى القدر والصفات وغير ذلك.
5) "إنَّ كونَ الشرك والظلم والفواحش شرًّا وقبيحا يُعرف بالعقل، واسم المشرك ثبت قبل الرسالة، لكن لايُعذِّب الله بذلك أحدا قبل قيام الحجَّة بالرِّسالة"، قاله جمهور أهل السنَّة، وخالفهم فى ذلك فئتان:
(الأولى) من قال: "إنَّها تُعرفُ بالعقل ويستحقُّ المخالف العذاب"، وهم المعتزلة وبعض علماء السنَّة كأبى حنيفة وغيره،
(الثانية) من قال: لا يعرفُ ذلك بالعقل، والحسنُ ما قيل فيه "إفعل" و القبيحُ ما قيل فيه "لا تفعل"، وهم الجهمية والأشعرية، وهم مع ذلك لم يقولوا:"إنَّ من لم تبلغه الرسالة مسلمٌ فى الدنيا"،
6) المسائل الَّتى ورد فى شأنها نصوص قطعية قسموها إلى:
(1) ضرورية: لا يُعذر بجهلها أحدٌ إلا من هو حديث عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة عن الأمصار،
(2) غير ضرورية: تُعرفُ بالنَّظر، ويكونُ مخالفها مُخطئا غيرآثم إذا إستفرغ الجهد فى معرفتها، وعجز عن دركها، سواء كانت المسألة علمية أوعملية، ويكون آثما أو كافرا إذا أصرَّ بعد إقامة الحجَّة عليه، قال ذلك جمهور السلف، لأنَّ الله غفر لهذه الأمَّة خطأها، وهو يعمُّ الخطأ فى العلم والعمل، وقالت المعتزلة ومن تأثَّر بأفكارهم من المنتسبين إلى السنَّة: إنَّ من أخطأ فى هذه المسائل لايكون إلا كافرا آثما.
7) المسائل الاجتهادية آلتي لم يرد فيها نصٌّ قاطعٌ اختلفوا فى: هل كلُّ مجتهد فيها مصيب، أم المصيب واحد وخطؤه مغفورله، وله أجر اجتهاده؟على قولين والأخيرُ هو الصواب الّذى تؤيده النُّصوص.
8) قال ابن حجرالعسقلانى فى "تهذيب التهذيب": وقال بن مهدي كنا في جنازة فسألته -أي عبيد الله العنبري- عن مسألة فغلط فيها فقلت له أصلحك الله أتقول فيه كذا وكذا فاطرق ساعة ثم رفع رأسه فقال إذا ارجع وأنا صاغر لأن أكون ذنبا في الحق أحب إلي من أن أكون رأسا في الباطل"
وقال: "وقال بن أبي خيثمة أخبرني سليمان بن أبي شيخ قال كان عبيد الله بن الحسن اتهم بأمر عظيم وروى عنه كلام رديء يعني قوله كل مجتهد مصيب ونقل محمد بن إسماعيل الأزدي في ثقاته أنه رجع عن المسألة التي ذكرت عنه لما تبين له الصواب والله أعلم اﻫ
ومن تاب من خطئه فقد أحسن، ولكن كثيرا ما يتوب صاحب المقالة ثمَّ لا تموت مقالته، بل تبقى فى غيره، ولذا استحقَّت المقالة المنسوبة إلى "العنبرى" النَّقد على توالى الأجيال لخطورتها.
وكان "عبيد الله العنبري"رجلا فاضلا ولَّى قضاء "البصرة"، ويقول عنه من ذكره من علماء الرجال أنَّه ثقة وروى له "مسلم"، وتوفي (168ﻫ)
(ب) المسألة الثانية (العذر بالجهل):
"هل يعذر من أشرك بالله الشرك الأكبر بالجهل ؟"
الجواب: ننظر أولا إلى حكم المسألة فى الكتاب والسُّنَّة، وما جاء فيهما من البيَّان، ثمَّ ننظرُ إلى مذهب الصحابة والتَّابعين ومن جاء بعدهم من الأئمَّة.
(أولاً) بيانُ القرآن للمسألة:
بيَّن القرآن هذه المسألة بيانا واضحا صريحا لا تختلف فيه الأفهام إذا لم تخضع للهوى، وذلك من وجوه كثيرة، نختار منها بعضها:
( أ ) (الوجه الأول):
1) ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: 5]
2) ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآَخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: 29]
3) ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 31]
4) ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64]
5) ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5]
6) ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللهُ﴾ [محمد: 19]
7) ﴿وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات: 14]
8) ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 256]
9) ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاًلاَ بَعِيدًا﴾ [النساء:136]
بيَّن الله تعالى فى هذه الآيات وما فى معناها فى القرآن شروط الدخول فى دين الإسلام، والَّتى لا يكون أحدٌ مسلماً مؤمناً بدون تحقيقها، وهي:
(أولا) أن يعلم علم يقين بأنَّ الله إلهٌ وربٌّ واحدٌ لاشريك له فى الألوهية والربوبيَّة.
(ثانيا) أن يعبد الله مخلصا له الدين وأن يكفر بكلِّ ما يعبدُ من دون الله ويتوب من كلِّ أصناف الشرك والكفر.
(ثالثا) أن يؤمن بملائكة الله وكتبه ورسله واليوم الآخر.
(رابعا) أن يؤمن بالنَّبيِّ الأخير محمَّد صلّى الله عليه وسلم، وأن يعبدالله بالشريعة المنـزلة عليه، ويُقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويفعل ما يجبُ عليه ويجتنب ما يحرم عليه، فدلَّ هذا البيان الإلهيُّ على أنَّ من لم يأتِ بهذه الشروط لايكون مسلما ولامؤمنا، بل يكون كافرا، جاهلا كان أو معاندا.
ومن أدخل فى الأمَّة المسلمة من ليس منها، ممن لم يُحقِّق شروط العضوية الَّتى شرطها الله فى كتابه، كالذين يقولون: "إنَّ المشرك إذا كان جاهلا غير معاند فهو مسلم ولا يجوزتكفيره"، من قال ذلك فقد ردَّ على الله قوله و كفر بما أنزله على رسوله صلّى الله عليه وسلم.
(ب) (الوجه الثانى)
1) ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [الأعراف: 172-173].
فهاتان الآيتان صريحتان بأن المشرك لا يعذر بالجهل والتقليد.
(جـ) (الوجه الثالث)
1) ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ، رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً، فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ، وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ، وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة:1ـ 5]
فى هذه الآيات دليلٌ بيِّنٌ على أنَّ غالب البشر كانوا قبل مبعث النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلم كفاراً مشركين وأهل كتاب، وكان الكفر هو وصفهم الشرعيِّ، وذلك مع جهلهم وعدم وجود البيِّنة الفاصلة بين الحقِّ والباطل.
ودلَّت كذلك على أنَّهم لمَّا جاءتهم البيِّنة من الله تفرَّقوا إلى مؤمنين وكافرين مصرِّين على طريقتهم القديمة، ودلَّت كذلك على أنَّ البيِّنةََ الَّتى كانوا يجهلونها، هي عبادة الله عزَّوجلَّ وحده لاشريك والعمل بأوامره كالصلاة والزكاة وغير ذلك،
(د) (الوجه الرابع)
1) ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [سورة القصص: 4]
2) ﴿يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ﴾ [طه: 39]
3) ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ [سورة النازعات: 17]
وفى هذه الآيات وصف الله فرعون بالإفساد فى الأرض والتجبُّر والطغيان وأنَّه عدوٌّ لله، وكان ذلك قبل أن يدعوه موسى عليه السلام إلى الإسلام لله وتوحيده، فدلَّ ذلك على أنَّ الكافرَ كافرٌ قبل مجئ الرسالة وبعدها، شاء أم أبى.
(هـ) (الوجه الخامس):
1) ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ [النحل: 25].
2) ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا، رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا﴾ [الأحزاب: 67].
3) ﴿وَبَرَزُوا للهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ﴾ [إبراهيم: 21].
4) ﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص: 40].
ففي هذه الآيات وما شاكلها بيان تام في أن الله لم يعذر التابعين الجاهلين الذين أضلَّهم الكبراء السادة بل جعل الفريقين مشتركين في عذاب الدنيا والآخرة.
(و) (الوجه السادس):
1) ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: 6].
وفي هذه الآية سمي الله أهل الأوثان مشركين مع تصريحه بأنهم قوم لا يعلمون أي جاهلون.
(ز) (الوجه السابع):
1) ﴿فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: 30].
ودلّت هذه الآية علي أن أهل الضلالة من بني آدم كانوا يحسبون أنهم مهتدون علي الصراط المستقيم، فمن ذلك تعلم أن أهل الجهل من المشركين أكثر عدداً من أهل العناد والإصرار علي الباطل، لأن الله قسم الناس إلى قسمين،، وهما القسم المهتدي والقسم الضال وهو يحسب أنه من المهتدين ولم يذكر أهل العناد لقلّتهم.
(ح) (الوجه الثامن)
1) ﴿وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا﴾ [الأسراء: 49].
2) ﴿وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ﴾ [الزخرف: 19].
3) ﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ، سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الصافات: 158ـ 159]
4) ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون﴾ [يونس: 18].
5) ﴿أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾ [الزمر: 3]
6) ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا﴾ [الجن: 6].
فهذه الآيات وأمثالها تدل على أنه كان لأهل الشرك عقائد فاسدة يظنونها صوابا، ومعلوم أن الإنسان لا يمكن أن يعتقد عقيدة يعلم فسادها، وإنما يعتقد العقيدة الفاسدة من يجهل الحقيقة، ومع أن الله ذكر في كتابه كثيرا من عقائدهم وظنونِهم الفاسدة، نجده كذلك لا يعذرهم بالجهل واتباع الظنّ،، بل إنه يجعل هذا الإتباع والرضى بالظنون والأوهام جريمة يستحقون بها أليم العذاب، لأنّهم أصبحوا أفّاكين مفترين على الله الأكاذيب بما يقولونه من أمور لا توافق الحقيقة المقرّرة في كتاب الله.
فقال تعالى: ﴿نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الأنعام: 143].
﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: 144].
﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آَبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ ﴾ [الأنعام: 148].
﴿وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا، مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا﴾ [الكهف: 4-5]،
﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [العنكبوت: 17].
﴿وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ﴾ [النحل: 56].
فنري أن الله وصفهم بالظلم والإفك والافتراء مع وصفه إياهم بالجهل وعدم العلم فدلّ ذلك علي أنّ من اعتقد عقيدة فاسدة أشرك فيها بالله لا يكون إلا مشركا ظالما، ولا يكون جهله وظنه بأنه على الصراط المستقيم عذراً ينفي عنه صفة الشرك.
(ط) (الوجه التاسع):
1) ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ. أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾ [النور: 39ـ40].
ذكر علماء التفسير أنَّ الآية الأولى بيانٌ لمثل الكافر الجاهل الَّذى يظنُّ أنَّه من المهتدين، وأنَّه ذو علم، والآية الثانية بيان لمثل الكافر الجاهل جهلا بسيطا، الَّذى لا يتعلَّقُ بشيء يظنُّه علماً، فدلَّ ذلك على أنَّ الجهل صفة لازمة لجميع أنواع الكفار سواء كان ذلك الجهل جهلا بسيطا أو مركباً، إلا المعاندين الَّذبن يعلمون الحقَّ ولا ينقادون له، وهم أيضا يوصفون بالجهل، لا بمعنى عدم العلم، ولكن بمعنى عدم إتِّباع العلم، فمن رأى إعذارالكفار الجهال، وظنَّ أنَّ الكفرهو العناد مع العلم، لايجد لهاتين الآيتين الكريمتين معنىً مناسبا.
(الثالث): بناء الأمة
وقد كان القوم الواحد بعد البيان والإنذار ينقسم إلى فريقين، فريق يصرّ على شركه ويدافع عن تقاليده ويعادي الإسلام والداعي إلى الإسلام وهم الذين سماهم القرآن"حزب الشيطان"، وفريق يستجيب للدعوة ويتّبع الرسول ويتبرأ من الشرك وأهله وهم الذين سماهم القرآن "حزب الله"، وكان ينضمّ إلى هذا الحزب كلّ من آمن بالله وصدق المرسلين ودان بالإسلام، ولهذا كان خطراً يهدّد وجوده الجاهلية،، فكان من الطبيعي أن تقوم المعركة بين الحزبين اللّذين لا يمكن التعايش بينهما طويلاً حتى يقضى أحدهما على الآخر، فلم تكن الرسل الكرام (عليهم السلام) دعاة مبشرين فحسب وإنما كانوا أيضاً قادة للأمم يخوضون بهم المعارك لإعلاء كلمة الله وإذلال حزب الشيطان المجرم.
قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحديد: 25].
وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 33].
وقال تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ [العمران: 146].
وقال تعالى: ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251].
(ح) القرن التَّاسع:
(1) قال محمَّد بن محمَّد ابن أمير الحاج الحنفي (825ﻫ - 879ﻫ) في "التقرير والتحبير": مسألة: "العقليات ما لا يتوقف على سمع كحدوث العالم ووجود موجده تعالى بصفاته وبعثه الرسل، والمصيب من مجتهديها" أي العقليات "واحد اتفاقا"، وهو الذي طابق اجتهاده الواقع فأصاب الحق لعدم إمكان وقوع النقيضين في نفس الأمر "
قال: " لأن حقيقة ملة الإسلام أبين من النهار لا مجال لنفيها بالاجتهاد ولا بغيره إذ الاجتهاد إنما يكون فيما فيه خفاء وغموض، والمعاند مكابر فيها "وإن" كان ما أخطأ فيه "غيرها" أي ملة الإسلام من المسائل الدينية "كخلق القرآن" أي القول بخلقه "وإرادة الشر" أي القول بعدم إرادة الله تعالى الشر فكان الأولى عدم إرادة الشر "فمبتدع آثم لا كافر.
قال: وقال "الجاحظ: لا إثم على مجتهد، ولو" كان الاجتهاد "في نفي الإسلام، وإن" كان نفيه اجتهادا "ممن ليس مسلما وتجري عليه" أي النافي في الدنيا "أحكام الكفار، وهو" أي نفي الإثم "مراد" عبد الله بن الحسن قاضي البصرة المعتزلي "العنبري بقوله: المجتهد في العقليات مصيب وإلا" لو لم يكن مراده هذا بل أراد وقوع معتقده في نفس الأمر "اجتمع النقيضان" في شيء واحد بتقدير اختلاف المجتهدين في القضايا العقلية كالقدم، والحدوث في اعتقاد قدم العالم وحدوثه "في نفس الأمر" فخرج عن المعقول؛ لأن النقيضين لا يكونان حقين في نفس الأمر هذا ما مشى عليه الآمدي وغيره ونفى السبكي أن يكون أراد نفي الإثم فإن ذلك مذهب الجاحظ بلا زيادة بل أراد أن ما يؤدي إليه اجتهاده فهو حكم الله في حقه سواء وافق ما في نفس الأمر أم لا ووافقه الكرماني على هذا"
وقال: وقيل: أراد أصول الديانات التي يختلف فيها أهل القبلة ويرجع المخالفون فيها إلى آيات وآثار محتملة للتأويل كالرؤية وخلق الأفعال، وأما ما اختلف فيه المسلمون وغيرهم من أهل الملل كاليهود، والنصارى، والمجوس فإن في هذا الموضع أن الحق فيما يقوله أهل الإسلام حكاه صاحب القواطع،
وقال: "لنا إجماع المسلمين قبل المخالف من الصحابة وغيرهم من لدنه عليه السلام وهلم عصرا تلو عصر على قتال الكفار وأنهم في النار بلا فرق بين مجتهد ومعاند مع علمهم بأن كفرهم ليس بعد ظهور حقية الإسلام لهم" جميعهم بل لبعضهم، ولو كانوا غير آثمين لما ساغ قتالهم وأنهم من أهل النار، وهو ظاهر ثم هذا إن كان خلاف المخالف فيمن خالف ملة الإسلام جملة وكيف لا، والمخالف حينئذ خارج عن ملة الإسلام بهذه المخالفة لا يعتد بقوله لو كان قبلها مسلما فالإجماع قائم من هذه الأمة بأسرها"
وقال: هذا والمراد بالمبتدع الذي لم يكفر ببدعته، وقد يعبر عنه بالمذنب من أهل القبلة كما أشار إليه المصنف سابقا بقوله: وللنهي عن تكفير أهل القبلة هو الموافق على ما هو من ضروريات الإسلام كحدوث العالم وحشر الأجساد من غير أن يصدر عنه شيء من موجبات الكفر قطعا من اعتقاد راجع إلى وجود إله غير الله تعالى، أو إلى حلوله في بعض أشخاص الناس، أو إنكار نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم أو ذمه، أو استخفافه، ونحو ذلك المخالف في أصول سواها مما لا نزاع أن الحق فيه واحد كمسألة الصفات وخلق الأعمال وعموم الإرادة وقدم الكلام ولعل إلى هذا أشار المصنف ماضيا بقوله إذ تمسكه بالقرآن، أو الحديث، أو العقل إذ لا خلاف في تكفير المخالف في ضروريات الإسلام من حدوث العالم وحشر الأجساد ونفي العلم بالجزئيات، وإن كان من أهل القبلة المواظب طول العمر على الطاعات وكذا المتلبس بشيء من موجبات الكفر ينبغي أن يكون كافرا بلا خلاف وحينئذ ينبغي تكفير الخطابية لما قدمناه عنهم في فصل شرائط الراوي، وقد ظهر من هذا أن عدم تكفير أهل القبلة بذنب ليس على عمومه إلا أن يحمل الذنب على ما ليس بكفر فيخرج المكفر به كما أشار إليه السبكي.
(وقد قسم الإمام الجهل إلى أقسام ثلاثة لخصتها من كتابه فيما يلى) وأقسام الجهل أربعة:
(الأول) جهل لا يصلح عذرا ولا شبهة فهو في الغاية،
وهوعلى أربعة أقسام:
(1) جهل الكافر بالذات والصفات
(2) "وجهل المبتدع كالمعتزلة" وموافقيهم "مانعي ثبوت الصفات" الثبوتية الحقيقية من الحياة، والقدرة، والعلم، والإرادة، والكلام وغيرها لله وكذلك المشبِّهة،
(3) جهل الباغى الخارج على الإمام بتأويل فاسد، ظانًّا أنَّه على الحقِّ والإمام على الباطل،
(4) وجهل من عارض مجتهده الكتاب
(الثانى) وجهل يصلح شبهة، دراءة للحدِّ والكفارة، وعذرا فى غيرهما: "كالجهل في موضع اجتهاد صحيح بأن لم يخالف" الاجتهاد "ما ذكر" أي الكتاب، أو السنة المشهورة، أو الإجماع، وكان في مناط الحكم فيه خفاء، وقد اختلف العلماء فيه: "وكقتل أحد الوليين" قاتل موليه عمدا عدوانا "بعد عفو" الولي "الآخر" جاهلا بعفوه، أو بسقوط القود بعفوه معتمدا على ظن أن القود له "لا يقتص منه"؛ لأن هذا جهل في موضع الاجتهاد "لقول بعض العلماء" من أهل المدينة على ما في التهذيب "بعدم سقوطه" أي القصاص الثابت للورثة "بعفو أحدهم" حتى لو عفا أحدهم كان للباقين القتل
(الثالث) وجهل يصلح عذرا: كمن أسلم في دار الحرب فترك بها صلوات جاهلا لزومها في الإسلام لا قضاء" عليه إذا علمه بعد ذلك؛ لأنه غير مقصر في طلب الدليل، وإنما جاء الجهل من قبل خفاء الدليل في نفسه لعدم اشتهاره في دار الحرب.
(ل) القرن الثَّالث عشر:
(1) وقال الإمام الشوكاني فى إرشاد الفحول: المسألة السابعة: اختلفوا في المسائل التي كل مجتهد فيها مصيب والمسائل التي لحق فيها مع واحد من المجتهدين وتلخيص الكلام في ذلك يحصل في فرعين:
الفرع الأول: العقليات، وهي على أنواع، الأول ما يكون الغلط فيه مانعاً من معرفة الله كما في إثبات العلم بالصانع والتوحيد والعدل، قالوا فهذه الحق فيها واحد فمن أصابه أصاب الحق ومن اخطأه فهو كافر، النوع الثاني مثل مسألة الرؤية وخلق القرآن وخروج الموحدين من النار وما يشابه ذلك فالحق فيها واحد فمن أصابه فقد أصاب ومن أخطأه فقيل يكفر، ومن القائلين بذلك الشافعي فمن أصحابه من حمله على ظاهره ومنهم من حمله على كفران النعم،
قال: وقد حكى ابن الحاجب في المختصر أن المصيب في العقليات واحد ثم حكى عن العنبري أن كل مجتهد في العقليات مصيب وحكى ايضاً عن الجاحظ أنه لا إثم على المجتهد بخلاف المعاهد.
قال الزركشي: " وأما الجاحظ فجعل الحق فيها واحدا ولكنه يجعل المخطئ في جميعها غير آثم، ثمَّ تكلَّم الشوكانيُّ عن (الفرع الثاني) الَّذى قسموه إلى قسمين:
(القسم الأول) وهو ما كان قطعيّا معلوماً بالضرورة، أو كان قطعيّاً ليس معلوما بالضرورة.
و(القسم الثانى) وهوالمسائل الَّتى لا قاطع فيها، وقال بعضهم فيها: "كلٌُّ مصيبٌ"، وقال الآخرون: "المصيبُ واحدٌ"، ومما قاله:
*12 "وهاهنا دليل يرفع النـزاع ويوضح الحق إيضاحاً لا يبقى بعده ريب لمرتاب وهو الحديث الثابت في الصحيح من طرق أن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر فهذا الحديث يفيدك أن الحق واحد وأن بعض المجتهدين يوافقه فيقال له مصيب ويستحق اجرين وبعض المجتهدين يخالفه ويقال له مخطئ واستحقاقه الأجر لا يستلزم كونه مصيباً واسم الخطأ عليه لا يستلزم أن لا يكون له أجر، فمن قال كل مجتهد مصيب وجعل الحق متعدداً بتعدد المجتهدين فقد أخطأ خطأ بينا وخالف الصواب بمخالفة ظاهره، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم جعل المجتهدين قسمين قسماً مصيباً وقسماً مخطئا ولو كان كل منهم مصيباً لم يكن لهذا التقسيم معنى.
(ب) القرن الثالث:
(1) الإمام أحمد بن حنبل (164ﻫ - 241ﻫ):
1) قال القاضى أبو يعلى فى "العُّدَّة": "المصيب واحد فى أصول الديانات، وقد نصَّ أحمد رحمه الله فى مواضع على تكفير جماعة من المتأوِّلين، كالقائلين بخلق القرآن،ونفي الرُّؤية، وخلق الأفعال، وهذا يمنع إصابتهم فى إجتهادهم، وهو قول الجماعة، "
2) وروى أبو داود فى مسائله (ص: 262) عن الإمام أحمد، أنَّه ذكر له أنَّ رجلا يقول: "إنَّ أسماء الله مخلوقة، والقرآن مخلوق؟" قال أحمد: "كفر" ونقل عنه أنَّه قال: "من قال إنَّ الله لايُرى فهوكافر".
3) جاء فى المسودة: قال شيخنا -أي الإمام أحمد ابن تيمية-: قال أحمد انه لا يجوز التقليد فيما يطلب فيه الجزم ولايثبت الا بدليل قطعي ويجوز التقليد فيما يطلب فيه الظن واثباته بدليل ظني.
(2) وقال ابن قتيبة عبد الله بن مسلم الدينوري (213-276ﻫ)
في اختلاف الحديث: "لم نصير إلى عبيد الله بن الحسن العنبري فنهجم من قبيح مذهبه وشدة تناقض قوله على ما هو أولى مما أنكره وذلك أنه كان يقول إن القرآن يدل على الاختلاف فالقول بالقدر صحيح والقول بالاجبار صحيح ولهما أصل في الكتاب فمن قال بهذا فهو مصيب و من قال بهذا فهو مصيب هؤلاء قوم عظموا الله وهؤلاء قوم نزهوا الله وكان يقول في قتال علي لطلحة والزبير وقتالهما إياه كله لله طاعة"
(3) قال الإمام أبوجعفر محمَّد بن جرير الطبري (224ﻫ 310ﻫ):
في قوله تعالى:﴿فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾
"وهذا من أبين الدلالة على خطأ من زعم أنّ الله لا يعذّب أحداً على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها إلاّ أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها، فيركبها عناداً منه لربّه فيها، لأنّه لو كان كذلك لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضلّ وهو يحسب أنّه مهتد وفريق الهدى فرقٌ، وقد فرّق الله تعالى بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية" [جامع البيان].
وقال فى قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ يقول: هم الَّذين لم يكن عملهم الَّذى عملوه فى حياتهم الدنيا على هدى واستقامة، بل كان على جور وضلالة، وذلك أنَّهم عملوا بغير ما أمرهم الله به، بل على كفرمنهم به ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ يقول: وهم يظنُّون أنَّهم بفعلهم ذلك لله مطيعون، وفيما ندب عباده إليه مجتهدون، وهذا من أدلّ الدلائل على خطأ قول من زعم أنَّه لايكفر بالله أحدٌ إلامن حيث يقصد إلى الكفربعد العلم بوحدانيته، وذلك أنَّ الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء الَّذين وصف صفتهم فى هذه الآية، أنَّ سعيهم الَّذى سعوا فى الدنيا ذهب ضلالا، وقد كانوا يحسبون أنَّهم محسنون فى صنعهم ذلك، و أخبرعنهم أنَّهم هم الَّذين كفروا بآيات ربِّهم، ولوكان القول كما قال الَّذين زعموا أنَّه لايكفر بالله أحدٌ إلا من حيث يعلم، لوجب أن يكون هؤلاء القوم فى عملهم الَّذى أخبر الله عنهم أنَّهم كانوا يحسبون فيه أنَّهم يحسنون صنعه، كانوا مثابين مأجورين عليها، ولكنَّ القول بخلاف ما قالوا، فأخبر جلَّ ثناؤه عنهم أنَّهم بالله كفرة، وأنَّ أعمالهم حابطة"
(ز) القرن الثامن:
(1) وقال الإمام صفيُّ الدين الحنبلي (ت: 739ﻫ) في "قواعد الأصول": "والحق في قول واحد، والمخطئ في الفروع -ولا قاطع- معذور مأجور على اجتهاده، وقال بعض المتكلمين: كل مجتهد مصيب، وليس على الحق دليل مطلوب،
قال: وزعم الجاحظ أن مخالف الملة متى عجز عن درك الحق فهو معذور غير آثم. وقال العنبري: كل مجتهد مصيب في الأصول والفروع فإن أراد أنه أتى بما أُمر فكقول الجاحظ، وإن أراد في نفس الأمر لزم التناقض".
(2) وقال الإمام "ابن القيم" (ت: 751ﻫ) فى طريق الهجرتين: "والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بالله وبرسوله واتّباعه فيما جاء به، فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم وإن لم يكن كافراً معانداً فهو كافرٌ جاهلٌ فغاية هذه الطبقة أنّهم كفّار جهّال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفّاراً، فإنّ الكافر من جحد توحيد الله وكذّب رسوله إما عناداً وإما جهلاً وتقليداً لأهل العناد" [طريق الهجرتين: 411]
وقال أيضاً: في قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: 28]: "فهذا استدلال قاطع على أنّ الإيمان بالله أمر مستقرّ في الفطر والعقول وأنّه لا عذر لأحد في الكفر به البتة" (بدائع التفسير)،
(3) وقال الإمام "ابن كثير"(ت: 774ﻫ): في قوله تعالى:﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ. أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾ (النور: 39/40)،
قال: "فأما الأول من هذين المثلين فهو للكافرين الدعاة إلى كفرهم الذين يحسبون أنهم على شيء من الأعمال والاعتقادات وليسوا في نفس الأمر على شيء، فمثلهم في ذلك كالسراب الذي يرى في القيعان من الأرض عن بعد كأنه بحر طام،، فكذلك الكافر يحسب أنّه قد عمل عملاً وأنّه قد حصل شيئاً فإذا وفى الله يوم القيامة وحاسبه عليها ونوقش على أفعاله لم يجد له شيئاً بالكلية قد قبل إما لعدم الإخلاص وإما لعدم سلوك الشرع، وهذا المثال مثالٌ لذوى الجهل المركب، فأما أصحاب الجهل البسيط وهم الطماطم والأغشام المقلدون لأئمة الكفر الصمّ البكم الذين لا يعقلون فمثلهم كما قال تعالى: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ﴾ الآية، فهذا مثل قلب الكافر الجاهل البسيط المقلّد الذي لا يعرف حال من يقوده ولا يدرى أين يذهب بل كما يقال –في المثل– للجاهل أين تذهب؟ قال: معهم، قيل: فإلى أين يذهبون ؟ قال: لا أدري،، (إﻫ).
(4) وقال تاج الدِّين عبد الوهاب ابن السبكى (771ﻫ) فى "جمع الجوامع" بشرح جلال الدِّين ا لمحلّي:
(مَسْأَلَةُ: الْمُصِيبِ) مِنْ الْمُخْتَلِفِينَ (فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَاحِدٌ) وَهُوَ مَنْ صَادَفَ الْحَقَّ فِيهَا لِتَعَيُّنِهِ فِي الْوَاقِعِ كَحُدُوثِ الْعَالَمِ وَثُبُوتِ الْبَارِي وَصِفَاتِهِ وَبَعْثَةِ الرُّسُلِ، (وَنَافِي الإِسْلامِ) كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ كَنَافِي بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وسلم (مُخْطِئٌ آثِمٌ كَافِرٌ); لأَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ الْحَقَّ (وَقَالَ الْجَاحِظُ وَالْعَنْبَرِيُّ لا يَأْثَمُ الْمُجْتَهِدُ) فِي الْعَقْلِيَّاتِ الْمُخْطِئُ فِيهَا لِلِاجْتِهَادِ (قِيلَ مُطْلَقًا، وَقِيلَ إنْ كَانَ مُسْلِمًا) فَهُوَ عِنْدَهُمَا مُخْطِئٌ غَيْرُ آثِمٍ (وَقِيلَ زَادَ الْعَنْبَرِيُّ) عَلَى نَفْيِ الْإِثْمِ (كُلٌّ) مِنْ الْمُجْتَهِدَيْنِ فِيهَا (مُصِيبٌ) وَقَدْ حُكِيَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِمَا قَبْلَ ظُهُورِهِمَا.
(5) وقال عبد الرحيم بن الحسن الاسنوي الشافعي (704ﻫ - 772ﻫ) "فى التمهيد": ليس كل مجتهد في العقليات مصيبا بل الحق فيها واحد فمن أصابه أصاب ومن اخطأه اخطأ وأثم بالإجماع كما قاله الآمدي، وأما المجتهد في المسائل الفرعية ففيه خلاف ينبني على أن كل صورة هل لها حكم معين أم لا.
(6) وقال بدر الدِّين محمَّد بن عبد الله الزركشى (ت: 795ﻫ): "في حكم الاجتهاد: لا يخلو حال المجتهد فيه إما أن تتفق عليه أقوال المجتهدين أو تختلف: فإن اتفقت فهو إجماع يجب العمل به، وإن اختلفت أقوالهم فإما أن يكون في حكم عقلي أو شرعي:
الأول: العقلي: فإن كان الغلط مما يمنع معرفة الله سبحانه ورسوله، كما في إثبات العلم بالصانع والوحدانية وما يتعلق بالعدل والتوحيد، فالحق فيها واحد، هو المكلف، وما عداه باطل، فمن أصابه أصاب الحق، ومن أخطأه فهو كافر، وإن كان في غير ذلك، كما في مسألة الرؤية وخلق القرآن، وكما في وجوب متابعة الإجماع والعمل بخبر الواحد، فقد أطلق الشافعي عليه اسم "الكفر"، فمن أصحابه من أجراه على ظاهره، ومنهم من أوله على كفران النعم، وصححه النووي وغيره، ولا شك في أنه مبتدع فاسق، لعدوله عن الحق، هذا كله إذا كانت المسألة دينية.
وقال عبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة: كل مجتهد في الأصول مصيب، ونقل مثله عن الجاحظ، ويلزم من مذهب العنبري أن لا يكون أحد من المخالفين في الدين مخطئا، وأما الجاحظ فجعل الحق في هذه المسائل واحدا، ولكنه يجعل المخطئ في جميعها غير آثم، أما رأي العنبري فبين الاستحالة، فإنه يستحيل أن يكون الحق أن العالم قديم وأنه محدث، وأما رأي الجاحظ فباطل، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قاتل اليهود والنصارى، وكذلك الصحابة، ولولا أنهم مخطئون لما كان كذلك، قال ابن السمعاني: وكان ابن العنبري يقول في مثبتي القدر: هؤلاء عظموا الله، وفي نافي القدر: هؤلاء نزهوا الله، وقد استبشع هذا القول منه، فإنه يقتضي تصويب اليهود والنصارى وسائر الكفار في اجتهادهم، قال: ولعله أراد أصول الديانات التي اختلف فيها أهل القبلة، كالرؤية وخلق الأفعال ونحوه، وأما ما اختلف فيه المسلمون وغيرهم من أهل الملل، كاليهود والنصارى والمجوس، فهذا مما يقطع فيه بقول أهل الإسلام،
(7) قال الإمام إبراهيم بن موسى الشاطبي (ت: 790ﻫ): "ونظيره مسألة أهل الفترات العاملين تبعا لآبائهم، واستنامة لما عليه أهل عصرهم من عبادة غير الله وما أشبه ذلك، لأنَّ العلماء يقولون فى حكمهم إنَّهم على قسمين:
*قسم غابت عليه الشريعة، ولم يدر ما يتقرَّبُ به إلى الله تعالى، فوقف عن العمل بكلِّ ما يتوهمه العقل أنَّ يقرِّبَ إلى الله، ورأى ما أهل عصره عاملون به مما ليس لهم فيه مستند إلا إستحسانهم، فلم يستفزه ذلك على الوقوف عنه، و هؤلاء هم الداخلون تحت عموم الآية ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾.
*وقسم لابس ما عليه أهل عصره من عبادة غير الله، والتحريم والتحليل بالرأي، فوافقوهم فى اعتقاد ما اعتقدوه من الباطل، فهؤلاء نصَّ العلماء على أنَّهم غير معذورين، مشاركون لأهل عصرهم فى المؤاخذة، لأنَّهم رافقوهم فى العمل والموالاة والمعاداة على تلك الشرعة، فصاروا من أهلها".
(ك) القرن الثَّانى عشر:
(1) وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب (1115- 1206ﻫ): "فإنّك إذا عرفت أنّ الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بالجهل، وقد يقولها وهو يظنّ أنّها تقرّبه إلى الله زلفى كما ظنّ المشركون" (كشف الشبهات).
(أ) القرن الثانى:
(1) قال الإمام الشافعيّ في "الأُمّ" (150ﻫ - 204ﻫ): والإقرار بالإيمان وجهان: "فمن كان من أهل الأوثان ومن لا دين له يدّعى أنّه دين النُّبوة ولا كتاب، فإذا شهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً عبده ورسوله فقد أقرّ بالإيمان ومتى رجع عنه قُتل.
قال: ومن كان على دين اليهودية والنصرانية فهؤلاء يدّعون دين موسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهما وقد بدّلوا منه، وقد أُخذ عليهم فيهما الإيمان بمحمّد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فكفروا بترك الإيمان به واتّباع دينه مع ما كفروا به من الكذب على الله قبله، فقد قيل لي: إنّ فيهم من هو مُقيمٌ على دينه يشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله، ويقول: "لم يبعث إلينا"، فإن كان فيهم أحدٌ هكذا فقال أحدٌ منهم: "أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله" لم يكن هذا مستكمل الإقرار بالإيمان حتى يقول: "وأنّ دين محمّدٍ حقٌّ أو فرضٌ وأبرأ مما خالف دين محمّدٍ صلّى الله عليه وسلم أو دين الإسلام"، فإذا قال هذا فقد استكمل الإقرار بالإيمان، فإذا رجع عنه أُستُتِيبَ، فإن تاب وإلاّ قُتل،
فإن كان منهم طائفةٌ تُعرَف بأن لا تُقرّ بنبوة محمّد صلّى الله عليه وسلم إلاّ عند الإسلام، أو تزعم أنّ من أقرّ بنبوته لزمه الإسلام، فشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله فقد استكملوا الإقرار بالإيمان، فإن رجعوا عنه اُستُتِيبوا، فإن تابوا وإلاّ قُتلوا"، موسوعة الشافعيّ: [المجلّد السابع، ص: 596].
فيتبيَّن من كلام الإمام أنَّه كان موافقاً للقرآن والحديث الَّذين دلَّا على أنَّ الإقرار بالإيمان وإظهار الإسلام يلزم كلَّ كافر يريد الدخول فى دين الله، سواء كان جاهلا أو معاندا، وأنَّه لمَّا عمَّ "أهل الأوثان"وعمَّ "أهل الكتاب" دلَّ على أنَّ الكفار عنده بمنْزلة واحدة، وأنَّ الجهل ليس عنده عُذراً يُخرجُ المشركين الجاهلين عن دائرة أهل الشرك، بل الثابت عنه أنَّه لم يكن يُعذر بالجهالة فى مبانى الإسلام الأخرى بعد التوحيد والرسالة، والمحرَّمات المعلومة بالتواتر،
قال فى "الرسالة" (ص: 357): "فقال لي قائل ما العلم وما يجب الناس في العلم؟" فقلت له: "العلم علمان علم عامة لا يسع بالغا غير مغلوب على عقله جهله " -قال ومِثلُ ماذا؟ قلت: "مثل الصلوات الخمس وأن لله على الناس صوم شهر رمضان وحج البيت إذا استطاعوه وزكاة في أموالهم وأنه حرم عليهم الزنا والقتل والسرقة والخمر وما كان في معنى هذا مما كلف العباد أن يعقلوه ويعملوه ويعطوه من أنفسهم وأموالهم وأن يكفوا عنه ما حرم عليه منه.
-وهذا الصنف كله من العلم موجودٌ نصّا في كتاب الله وموجودا عاما عند أهل الإسلام ينقله عوامهم عن من مضى من عوامهم يحكونه عن رسول الله ولا يتنازعون في حكايته ولا وجود به عليهم
-وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر ولا التأويل ولا يجوز فيه التنازع" قال فما الوجه الثاني؟
قلت له: " ما ينوب العباد من فروع الفرائض وما يُخَصُّ به من الأحكام وغيرها مما ليس فيه نصُّ كتاب ولا في أكثره نصُّ سنةٍ وإن كانت في شيء منه سنةٌ فإنما هي من أخبار الخاصة لا أخبار العامة، وما كان منه يحتمل التأويل ويُستدرك قياسا، "- ا ﻫ -
(ي) القرن الحادي عشر:
(1) وقال الشيخ محبّ الله البهارى الحنفى (ت: 1119ﻫ): "مسألة المُصيب فى العقليَّات واحدٌ وإلا اجتمع النقيضان، وخلافُ العنبريِّ بظاهره غير معقول، والمخطئُ فيها إن كان نافيا لملَّة الإسلام فكافرٌ وآثمٌ على اختلاف فى شرائطه كما مرَّ، وإن لم يكن، كخلق القرآن فآثمٌ لا كافرٌ، ومن ثمة أوَّلوا ما عن الشافعيِّ من تكفير قائله بكفران النِّعمة، والشرعيَّات القطعيَّات كذلك، فمنكر الضروريات منها كالأركان وحجيَّة القُرآن ونحوهما كافرٌ آثمٌ، ومنكر النظريات كحجيَّة الإجماع وخبر الواحد آثمٌ فقط.
وقال "الجاحظ": لا إثم على المجتهد المخطئ أصلا وإن جرى عليه فى الدنيا حكم الكفر بخلاف المعاند، وقيل: هومراد العنبريِّ، ولنا: (أولا) إجماع السابقين على أنَّهم من أهل النَّارمطلقا،
و(ثانيا) مثل قوله تعالى: "فويلٌ للذين كفروا من النَّار"، "ولهم عذابٌ عظيم"، "وهو فى الآخرة من الخاسرين"، والتخصيص بغير المجتهد مدفوعٌ بالصيغة، " (فواتح الرحموت: 2/425)
(2) وقال الإمام "الصنعاني"(1059ﻫ - 1182ﻫ) في تطهير الاعتقاد: بعد أن بيّن أنّ القبوريين مشركون: "فإن قلت هم جاهلون أنّهم مشركون بما يفعلونه، قلتُ: قد خرّج الفقهاء في كتب الفقه، أنّ من تكلّم بكلمة الكفر كفر وإن لم يقصد معناها وهذا دالٌ على أنّهم لا يعرفون حقيقة الإسلام ولا ما هية التوحيد فصاروا حينئذ كفّاراً كفراً أصلياً"، فإن قلتَ: فإذا كانوا مشركين وجب جهادهم والسلوك فيهم ما سلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المشركين؟ قلتُ: إلى هذا ذهب أهل العلم فقالوا: يجب أولاً دعاؤهم إلى التوحيد".
(د) القرن الخامس:
(1) قال القاضى أبو يعلى محمَّد بن الحسين الحنبلي (380ﻫ - 458ﻫ): "المصيب واحد فى أصول الديانات، وقد نصَّ أحمد رحمه الله فى مواضع على تكفير جماعة من المتأوِّلين، كالقائلين بخلق القرآن، ونفي الرُّؤية، وخلق الأفعال، وهذا يمنع إصابتهم فى اجتهادهم، وهو قول الجماعة، وحكي عن عبيدالله العنبري: أنَّ المجتهدين من أهل القبلة مصيبون مع اختلافهم، وهذا غلط لأنَّ إباحة الاجتهاد تجوز فيما جوَّزنا ورود الشرع، وغير جائز أن يرد الشرع بالأمرين المتضادين فى صفات البارئ سبحانه، وما يجوزعليه ومالايجوز، فإنَّه لايجوزأن يكون يُراد لا يراد، خالق لأفعال العباد غير خالق، والنَّبيُّ صادق وليس بصادق، ولا يشبه هذا أحكام الفروع،" [العدَّة: 5/1540]
(2) وقال أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذانيِّ الحنبليِّ(432ﻫ - 510ﻫ) فى كتاب "التمهيد": "الحقُّ فى قول المجتهدين فى أصول الدِّين فى واحد، وما عداه باطل نصَّ عليه إمامنا أحمد رضي الله عنه فى مواضع، وبه قال عامَّة العلماء، وحكي عن عبيد الله بن الحسن العنبريِّ: أنَّ المجتهدين فى الأصول من أهل القبلة جميعهم مصيبون مع اختلافهم،
(3) قال أبو حامد الغزالي (ت: 505 ﻫ) فى المنخول:
(الفصل الأول): فى أنَّ كلَّ مجتهد فى الأصول لا يُصيب: وأجمع العقلاء عليه سوى أبي الحسن العنبري حيث صوَّب كل مجتهد في العقليات ولا يظن به طرد ذلك في قدم العالم ونفي النبوات ولعله أراده في خلق الأفعال وخلق القرآن.
وقال فى "المستصفى": "فإن أخطأ فيما يرجع إلى الإيمان بالله ورسوله فهو كافر وإن أخطأ فيما لا يمنعه من معرفة الله عزّ وجلّ ومعرفة رسوله كما في مسألة الرؤية وخلق الأعمال وإرادة الكائنات وأمثالها فهو آثم من حيث عدل عن الحق وضل ومخطىء من حيث أخطأ الحق المتيقن ومبتدع من حيث قال قولا مخالفا للمشهورين السلف ولا يلزم الكفر،
وأما الأصولية فنعني بها كون الإجماع حجة وكون القياس حجة وكون خبر الواحد حجة ومن جملته خلاف من جوز خلاف الإجماع المنبرم قبل انقضاء العصر وخلاف الإجماع الحاصل عن اجتهاد ومنع المصير إلى أحد قولي الصحابة والتابعين عند اتفاق الأمة بعدهم على القول الآخر ومن جملته اعتقاد كون المصيب واحدا في الظنيات فإن هذه مسائل أدلتها قطعية والمخالف فيها آثم مخطىء وقد نبهنا على القطعيات والظنيات في أدراج الكلام في جملة الأصول وأما الفقهية فالقطعية منها وجوب الصلوات الخمس والزكاة والحج والصوم وتحريم الزنا والقتل والسرقة والشرب وكل ما علم قطعا من دين الله فالحق فيها واحد وهو المعلوم والمخالف فيها آثم ثم ينظر فإن أنكر ما علم ضرورة من مقصود الشارع كإنكار تحريم الخمر والسرقة ووجوب الصلاة والصوم فهو كافر لأن هذا الإنكار لا يصدر إلا عن مكذب بالشرع وإن علم قطعا بطريق النظر لا بالضرورة ككون الإجماع حجة وكون القياس وخبر الواحد حجة وكذلك الفقهيات المعلومة بالإجماع فهي قطعية فمنكرها ليس بكافر لكنه آثم مخطىء، فخرج من هذا أن النظريات قسمان قطعية وظنية فالمخطىء في القطعيات آثم ولا إثم في الظنيات أصلا لا عند من قال المصيب فيها واحد ولا عند من قال كل مجتهد مصيب هذا هو مذهب الجماهير وقد ذهب بشر المريسي إلى إلحاق الفروع بالأصول وقال فيها حق واحد متعين والمخطىء آثم وقد ذهب الجاحظ والعنبري إلى إلحاق الأصول بالفروع وقال العنبري كل مجتهد في الأصول أيضا مصيب وليس فيها حق متعين وقال الجاحظ فيها حق واحد متعين لكن المخطىء فيها معذور غير آثم كما في الفروع.
فلنرسم في الرد على هؤلاء الثلاثة ثلاث مسائل:
(1) مسألة مخالفة أهل الكتاب للإسلام:
ذهب الجاحظ إلى أن مخالف ملة الإسلام من اليهود والنصارى والدهرية إن كان معاندا على خلاف اعتقاده فهو آثم وإن نظر فعجز عن درك الحق فهو معذور غير آثم وإن لم ينظر من حيث لم يعرف وجوب النظر فهو أيضا معذور وإنما الآثم المعذب هو المعاند فقط لأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها وهؤلاء قد عجزوا عن درك الحق ولزموا عقائدهم خوفا من الله تعالى إذ استد عليهم طريق المعرفة وهذا الذي ذكره ليس بمحال عقلا لو ورد الشرع به وهو جائز ولو ورد التعبد كذلك لوقع ولكن الواقع خلاف هذا فهو باطل بأدلة سمعية ضرورية فإنا كما نعرف أن النبي أمر بالصلاة والزكاة ضرورة فيعلم أيضا ضرورة أنه أمر اليهود والنصارى بالإيمان به واتباعه وذمهم على إصرارهم على عقائدهم ولذلك قاتل جميعهم وكان يكشف عن مؤتزر من بلغ منهم ويقتله ويعلم قطعا أن المعاند العارف مما يقل وإنما الأكثر المقلدة الذين اعتقدوا دين آبائهم تقليدا ولم يعرفوا معجزة الرسول عليه السلام وصدقه والآيات الدالة في القرآن على هذا لا تحصى.
كقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ [ص: 27].
وقوله تعالى: ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ﴾ [فصلت: 23]
وقوله تعالى: ﴿إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ﴾ [الجاثية: 24]
وقوله تعالى: ﴿وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ﴾ [المجادلة: 18]
وقوله تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [البقرة: 10] أي شك،
وعلى الجملة ذم الله تعالى والرسول عليه السلام المكذبين من الكفار مما لا ينحصر في الكتاب والسنة وأما قوله كيف يكلفهم ما لا يطيقون قلنا نعلم ضرورة أنه كلفهم أما أنهم يطيقون أو لا يطيقون فلننظر فيه بل نبه الله تعالى على أنه أقدرهم عليه بما رزقهم من العقل ونصب من الأدلة وبعث من الرسل المؤيدين بالمعجزات الذين نبهوا العقول وحركوا دواعي النظر حتى لم يبق على الله لأحد حجة بعد الرسل.
(2) مسألة الاجتهاد في العقليات:
ذهب عبيد الله بن الحسن العنبري إلى أن كل مجتهد مصيب في العقليات كما في الفروع فنقول له إن أردت أنهم لم يؤمروا إلا بما هم عليه وهو منتهى مقدورهم في الطلب فهذا غير محال عقلا ولكنه باطل إجماعا وشرعا كما سبق رده على الجاحظ وإن عنيت به أن ما أعتقده فهو على ما اعتقده فنقول كيف يكون قدم العالم وحدوثه حقا وإثبات الصانع ونفيه حقا وتصديق الرسول وتكذيبه حقا وليست هذه الأوصاف وضعية كالأحكام الشرعية إذ يجوز أن يكون الشيء حراما على زيد وحلالا لعمرو إذا وضع كذلك أما الأمور الذاتية فلا تتبع الاعتقاد بل الاعتقاد يتبعها فهذا المذهب شر من مذهب الجاحظ فإنه أقر بأن المصيب واحد ولكن جعل المخطىء معذورا بل هو شر من مذهب السوفسطائية لأنهم نفوا حقائق الأشياء وهذا قد أثبت الحقائق ثم جعلها تابعة للاعتقادات، بخلاف مذهب الجاحظ وقد استبشع إخوانه من المعتزلة هذا المذهب فأنكروه وأولوه وقالوا: "أراد به اختلاف المسلمين في المسائل الكلامية التي لا يلزم فيها تكفير كمسألة الرؤية وخلق الأعمال وخلق القرآن وإرادة الكائنات لأن الآيات والأخبار فيها متشابهة وأدلة الشرع فيها متعارضة وكل فريق ذهب إلى ما رآه أوفق لكلام الله وكلام رسوله u وأليق بعظمة الله سبحانه وثبات دينه فكانوا فيه مصيبين ومعذورين، "
فنقول: " إن زعم أنهم فيه مصيبون فهذا محال عقلا لأن هذه أمور ذاتية لا تختلف بالإضافة بخلاف التكليف فلا يمكن أن يكون القرآن قديما ومخلوقا أيضا بل أحدهما والرؤية محالا وممكنا أيضا والمعاصي بإرادة الله تعالى وخارجة عن إرادته أو يكون القرآن مخلوقا في حق زيد قديما في حق عمرو بخلاف الحلال والحرام فإن ذلك لا يرجع إلى أوصاف الذوات وإن أراد أن المصيب واحد لكن المخطىء معذور غير آثم فهذا ليس بمحال عقلا لكنه باطل بدليل الشرع واتفاق سلف الأمة على ذم المبتدعة ومهاجرتهم وقطع الصحبة معهم وتشديد الإنكار عليهم مع ترك التشديد على المختلفين في مسائل الفرائض وفروع الفقه فهذا من حيث الشرع دليل قاطع وتحقيقه أن اعتقاد الشيء على خلاف ما هو به جهل والجهل بالله حرام مذموم"
(3) مسألة إثم المجتهد في الفروع:
ذهب بشر المريسي إلى أن الإثم غير محطوط عن المجتهدين في الفروع بل فيها حق معين وعليه دليل قاطع فمن أخطأه فهو آثم كما في العقليات لكن المخطىء قد يكفر كما في أصل الإلهية والنبوة وقد يفسق كما في مسألة الرؤية وخلق القرآن ونظائرها وقد يقتصر على مجرد التأثيم كما في الفقهيات وتابعه على هذا من القائلين بالقياس ابن علية وأبو بكر الأصم ووافقه جميع نفاة القياس ومنهم الإمامية وقالوا لا مجال للظن في الأحكام لكن العقل قاض بالنفي الأصلي في جميع الأحكام إلا ما استثناه دليل سمعي قاطع فما أثبته قاطع سمعي فهو ثابت بدليل قاطع وما لم يثبته فهو باق على النفي الأصلي قطعا ولا مجال للظن فيه
(4) قال أبو إسحق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز أبادي (ت: 476 ﻫ) في كتاب "التبصرة": "الحق من قول المختلفين في أصول الديانات واحد وما عداه باطل، وحكي عن عبيد الله بن الحسن العنبري أنه قال كل مجتهد مصيب وحكي عن بعضهم أنه قال ذلك فيما يجري مجرى القول في القدر والإرجاء والآثار لنا هو أن مسائل الأصول عليها أدلة قاطعة على أن الأمر فيها على صفة واحدة فمن اعتقد فيها خلاف ما هي عليه كان اعتقاده جهلا والخبر عنه كذبا والجهل والكذب قبيحان فلا يجوز أن يكون صوابا، ويدل عليه هو أن كل قولين لا يجوز ورود الشرع بصحة واحدة منهما لم يجز أن يكون القول بهما صوابا كقول المسلمين إن الله تعالى واحد لا شريك له وفي قول النصارى إنه ثالث ثلاثة
وقال فى كتاب "اللمع فى أصول الفقه": الاجتهاد في عرف الفقهاء: استفراغ الوسع وبذل المجهود في طلب الحكم الشرعي، والأحكام ضربان عقلي وشرعي، فأما العقلي فهو كحدوث العالم وإثبات الصانع وإثبات النبوة وغير ذلك من أصول الديانات والحق في هذه المسائل في واحد وما عداه باطل، وحكي عن عبيد الله بن الحسن العنبري أنه قال كل مجتهد في الأصول مصيب ومن الناس من حمل هذا القول منه على أنه إنما أراد في أصول الديانات التي يختلف فيها أهل القبلة ويرجع المخالفون فيها إلى آيات وآثار محتملة للتأويل كالرؤية وخلق الأفعال والتجسيم وما أشبه ذلك دون ما يرجع إلى الاختلاف بين المسلمين وغيرهم من أهل الأديان والدليل على فساد قوله هو أن هذه الأقوال المخالفة للحق من التجسيم ونفي الصفات لا يجوز ورود الشرع بها فلا يجوز أن يكون المخالف فيها مصيبا كالقول بالتثليث وتكذيب الرسل.
وأما الشرعية فضربان: ضرب يسوغ فيه الاجتهاد وضرب لا يسوغ فيه الاجتهاد فأما ما لا يسوغ فيه الاجتهاد فعلى ضربين: أحدهما ما علم من دين الرسول صلّى الله عليه وسلم ضرورة كالصلوات المفروضة والزكوات الواجبة وتحريم الزنا واللواط وشرب الخمر وغير ذلك فمن خالف في شيء من ذلك بعد العلم فهو كافر لأن ذلك معلوم من دين الله تعالى ضرورة فمن خالف فيه فقد كذب الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم في خبرهما فحكم بكفره، والثاني ما لم يعلم من دين الرسول صلّى الله عليه وسلم ضرورة كالأحكام التي تثبت بإجماع الصحابة وفقهاء الامصار ولكنها لم تعلم من دين الرسول صلّى الله عليه وسلم ضرورة فالحق من ذلك في واحد وهو ما أجمع الناس عليه فمن خالف في شيء من ذلك بعد العلم به فهو فاسق، وأما ما يسوغ فيه الاجتهاد وهو المسائل التي اختلف فيها فقهاء الأمصار على قولين وأكثر فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال الحق من ذلك كله في واحد وما عداه باطل إلا أن الإثم موضوع عن المخطئ فيه.
وذكر هذا القائل أن هذا هو مذهب الشافعي رحمه الله لا قول له غيره، ومن أصحابنا من قال فيه قولان أحدهما ما قلناه والثاني أن كل مجتهد مصيب وهو ظاهر قول مالك رحمه الله وأبي حنيفة رحمه الله".
(5) وقال الإمام منصور بن محمّد السمعانى(489ﻫ)فى "قواطع الأدلَّة": "واعلم أنَّ الأحكام ضربان: عقليٌّ وسمعيٌّ، والأولى أن يُقال أصول وفروع، فأمَّا أصول الدِّين فالحقُّ فى قول واحد منهما، والثانى باطل قطعا، وحكي عن عبيد الله بن الحسن العنبري أنَّه قال: كلُّ مجتهد فى الأصول مصيب، وكان يقول فى مثبتى القدر: هؤلاء عظَّموا الله، ويقول فى نافى القدر: هؤلاء نزَّهوا الله، وقد قيل إنَّ هذا القول منه فى أصول الديانات الَّتى يختلف فيها أهل القبلة، ويرجع المخالفون فيها إلى آيات وآثار صحيحة للتأويل كالرُّؤية وخلق الأفعال وما أشبه ذلك، فأمَّا ما إختلف فيه المسلمون وغيرهم من أهل الملل، كاليهود والنَّصارى والمجوس، فإنَّ فى هذا الموضع نقطع بأنَّ الحقَّ فيما يقوله أهل الإسلام، وينبغى أن يكون التَّأويل على هذا الوجه، لأنَّا نظنُّ أنَّ أحداً من هذه الأمَّة لابدَّ أن يقطع بتضليل اليهود والنَّصارى والمجوس، وأنَّ قولهم باطل قطعاً، ولأنَّ الدلائل القطعية قد قامت لأهل الإسلام فى بطلان قول هؤلاء الفرق، والدلائل القطعية توجب الإعتقاد القطعي، فلم يكن بدٌّ من القول بأنَّهم ضُالُّون مخطئون قطعاً، وإذا ثبت هذا فيما يخالفنا أهل الملل، فكذلك فيما يخالفنا فيه القدرية والمجسَّمة والجهمية والروافض والخوارج وسائر من يخالف أهل السنّة، لأنَّا نقول: إنَّ الدلائل القطعيَّة قد قامت لأهل السنَّة على ما يوافق عقائدهم، فثبت ما إعتقدوه قطعاً، فحكم ببطلان ما يخالفه قطعا، وإذا حكمنا ببطلان ذلك قطعا، ثبت أنَّهم ضُلال ومبتدعة.
ونذكرمشروع هذا الكلام ومدخله على وجه آخر فنقول: "إنَّ الإختلاف بين الأمَّة على ضربين، إختلاف يوجب البراءة ويوقع الفرقة ويرفع الألفة، وإختلاف لايوجب البراءة ولايرفع الألفة، فالأول كالإختلاف فى التَّوحيد.
قال: من خالف أصله كان كافراً وعلى المسلمين مفارقته والتبرُّؤ منه وذلك لأنَّ أدلََّة التوحيد كثيرة ظاهرة متواترة قد طبقت العالم، وعمَّ وجودها فى كلِّ مصنوع فلم يعذر أحدٌ بالذهاب عنها، وكذلك الأمر فى النُّبوة لقوَّة براهينها، وكثرة الأدلَّة الباهرة الدالَّة عليها، وكذلك كلُّ ما كان من أصول الدِّين، فالأدلَّة عليها ظاهرة باهرة، والمخالف فيه معاند مكابر، والقول بتضليله واجب، والبراءة منه شرع، ولهذا قال إبن عمر حين قيل له: إنَّ قوماً يقولون: لاقدر، فقال: بلِّغوهم أنَّ ابن عمر برئٌ منهم و أنَّهم منِّى براء.
قال: والضرب الآخرمن الإختلاف لايُزيل الألفة، ولايُوجب الوحشة، ولا يُوجب البراءة، ولايقطع موافقة الإسلام، وهو الإختلاف الواقع فى النَّوازل الَّتى عدُمت فيها النُصوص فى الفروع، وغمضت فيها الأدلَّة فيُرجع فى معرفة أحكامها إلى الاجتهاد، "
(6) قال الشيخ الإمام الحسين بن مسعود البغوي (ت: 516ﻫ): ﴿إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: 30].
قال: "فيه دليل على أنَّ الكافرالَّذى يظنُّ أنَّه فى دينه على الحقِّ والجاحد والمعاند سواءُ"،
وقال فى" شرح السنَّة": "العلوم الشرعية قسمان: علم الأصول، وعلم الفروع، أما علم الأصول، فهو معرفة الله سبحانه وتعالى بالوحدانية، والصفات، وتصديق الرسل، فعلى كل مكلف معرفته، ولا يسع فيه التقليد لظهور آياته، ووضوح دلائله، قال الله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ﴾ [محمد: 19 ].
وقال الله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [ فصلت: 53 ]،
وأما علم الفروع، فهو علم الفقه، ومعرفة أحكام الدين، فينقسم إلى فرض عين، وفرض كفاية، أما فرض العين، فمثل علم الطهارة والصلاة والصوم، فعلى كل مكلف معرفته، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضةعلى كل مسلم"، وكذلك كل عبادة أوجبها الشرع على كل واحد، فعليه معرفةعلمها، مثل علم الزكاة إن كان له مال، وعلم الحج إن وجب عليه، وأما فرض الكفاية، فهو أن يتعلم ما يبلغ به رتبة الاجتهاد، ودرجة الفتيا، فإذا قعد أهل بلد عن تعلمه، عصوا جميعا، وإذا قام واحد منهم بتعلمه فتعلمه، سقط الفرض عن الآخرين، وعليهم تقليده فيما يعن لهم من الحوادث، قال الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43].
(م) القرن الرابع عشر:
(1) قال محمَّد رشيد رضا (1282ﻫ - 1354ﻫ) فى "المنَّار": ﴿أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ إنَّا كنَّا غافلين عن هذا التوحيد للربوبية وما يستلزمه من توحيد الألوهية بعبادة الربِّ وحده، والمراد أنّه تعالى لا يقبل منهم الإعتذار بالجهل، ﴿أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ جاهلين ببطلان شركهم، ﴿أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ بإختراع الشرك، فتجعل عذابناكعذابهم مع عذرنا بتحسين الظنِّ بهم، والمراد أنَّ الله تعالى لا يقبل منهم الإعتذار بتقليد آبائهم وأجدادهم، كما أنَّه لم يقبل منهم الإعتذار بالجهل بعد ما أقام عليهم من حجَّة الفطرة و العقل.
(2) وقال سيد قطب (ت: 1387ﻫ) في ظلال القرآن:
﴿أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [يوسف:40]. "وكونهم لا يعلمون لا يجعلهم في دين الله القيّم فالذي لا يعلم شيئاً لا يمكن الاعتقاد فيه ولا تحقيقه، فإذا وجد ناسٌ لا يعلمون حقيقة الدين لم يعد من الممكن عقلاً وواقعاً وصفهم بأنّهم على هذا الدين، ولم يقم جهلهم عذراً لهم يسبغ عليهم صفة الإسلام ذلك أنّ الجهل مانعٌ للصفة ابتداء، فاعتقاد شيء فرع عن العلم به، وهذا منطق العقل والواقع، بل منطق البداهة الواضح"(إﻫ).
وقال فى تفسير قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾: وبعض المترفقين بالنَّاس اليوم يتلمسون لهم عذراً فى أنّهم يجهلون مدلول كلمة "دين الله"، وهم من ثمَّ لايُصرُّون ولا يحاولون تحكيم شريعة الله وحدها، بوصفها هي "الدين"، وأنَّ جهلهم هذا بمدلول الدين يعفيهم من أن يكونوا جاهلين مشركين!!. وأنا لاأتصور كيف أنَّ جهل النَّاس إيتداء بحقيقة هذا الدين يجعلهم فى دائرة هذا الدين، إنَّ الإعتقاد بحقيقة فرعٌ عن معرفتها، فإذا جهل النَّاس حقيقة عقيدة فكيف يكونون معتنقين لها؟ وكيف يُحسبون من أهلها وهم لا يعرفون إبتداءً مدلولها؟،
إنَّ هذا الجهل قد يعفيهم من حساب الآخرة، أو يُخففُ عنهم العذاب فيها، ويلقى بتبعاتهم وأوزارهم على كاهل من لا يُعلِّمونهم حقيقة هذا الدين وهم يعرفونها،، ولكن هذه مسألة غيبية متروك أمرها لله، والجدل فى الجزاء الأخرويِّ لأهل الجاهلية عامَّة ليس وراءه كبير طائل، وليس هو الَّذى يُعنينا نحن البشر الَّذين ندعوا إلى الإسلام فى الأرض!!،
إنَّ الَّذى يُعنينا هو تقرير حقيقة الدِّين الَّذى فيه النَّاس اليوم: إنَّه ليس دين الله قطعاً، فدين الله هو نظامه وشرعه وفق النُّصوص القرآنية الصريحة، فمن كان فى نظام الله وشرعه فهو فى "دين الله"، ومن كان فى نظام الملك وشرعه فهو فى "دين الملك"، ولا جدال فى هذا، والَّذين يجهلون مدلول الدِّين لا يُمكن أن يكونوا معتقدين بهذا الدِّين، لأنَّ الجهل هنا واردٌ على أصل حقيقة الدِّين الأساسية، والجاهل بحقيقة هذا الدِّين الأساسية لا يُمكن عقلا وواقعاً أن يكون معتقدا به، إذ الاعتقاد فرعٌ عن الإدراك والمعرفة، وهذه بديهية، وخيرٌ لنا من أن ندافع عن النََّاس وهم فى غير دين الله، ونلتمس لهم المعاذير، ونحاول أن نكون أرحم بهم من الله الَّذى يقرِّرُ مدلول دينه وحدوده!!، خيرٌ لنا من هذا كلِّه أن نشرع فى تعريف النَّاس حقيقة مدلول "دين الله "ليدخلوا فيه، أو يرفضوه، هذا خيرٌ لنا وللناس أيضاً،، خيرٌ لنا لأنَّه يعفينا من تبعة ضلال هؤلاء الجاهلين بهذا الدين، الَّذين ينشأ عن جهلهم به عدم إعتناقه فى الحقيقة، وخيرٌ للنَّاس لأنَّ مواجهتهم بحقيقة ما هم عليه -وأنَّهم فى دين الملك لا فى دين الله- قد تهزُّهم هزَّة تخرجهم من الجاهلية إلى الإسلام، ومن دين الملك إلى دين الله!!، كذلك فعل الرُّسل عليهم صلوات الله وسلامه. وكذلك ينبغى أن يفعل الدعاة إلى الله فى مواجهة الجاهلية فى كلِّ زمان ومكان.
(قلتُ):
1) إذا دلَّ القرآن على أنَّ الكافر الجاهل، الَّذى يظنُّ أنَّه على الحقِّ آثمٌ عند الله وموصوفٌ بالكفر فى الدنيا، ودلَّت سنَّةُ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلم على ما دلَّ عليه القرآن، وتتابع علماء الفقه والأصول على موافقة الكتاب والسنَّة، فما عسى أن يقوله أهلُ الزيغ والضلال آخر الزمان!؟
أيقولون: إنَّ مسألة التوحيد والبراءة من الشرك وأهله ليست من أصل الدِّين الَّذى يكون المخطئُ فيه كافراً على جهله!؟
أم يقولون: إنَّ الأمَّة أجمعت على الضلال وأنَّ القولَ الحقَّ ما يحكى عن الجاحظِ وأمثاله!؟ وليتهم قالوا بما قال الجاحظُ وأمثاله، لأنَّ أولئك لم يجعلوا مقلَّدةَ الكفار وجهلائهم مسلمين فى أحكام الدنيا، وإنَّماجعلوا لهم عذراً عند الله وفى أحكام الآخرة، فاستحلَّ علماء الإسلام التشنيع عليهم وعلى عقائدهم الضالَّة على مرِّ العصور وتوالى الدهور، بل صرح بعضهم بكفر من قال ذلك، بينما تقول"الجاحظيةُ الحديثةُ": إنَّ المشركَ العابد لغير الله مسلمٌ فى الدنيا ويدخل الجنَّة فى الآخرة إذا كان جاهلا!. وهذه لا شكَّ فى كونها ردَّة صريحة، إذا كان قائلها مسلما قبل ذلك، (ونعوذبالله من الخذلان، والحمد لله ربِّ العالمين)
2) يُطلقُ كثيرٌ من العلماء -كما مرَّ بنا-: "أنَّ مسائل العقيدة الَّتى وقع الإختلاف فيها بين الأمَّة يكون المخطئ آثماً واختلف فى تكفيره"، وينبغى أن يحمل ذلك على ما كان فيه نصٌّ قاطعٌ ظاهرٌ معناه، وأمَّا ما كان فيه خفاءٌ وغموضٌ فإنَّ المخطئ معذور،
قال "الإمام ابن تيمية": "والخطأ المغفور في الاجتهاد هو في نوعي المسائل الخبرية والعلمية كما قد بسط في غير موضع كمن اعتقد ثبوت شيء لدلالة آية أو حديث وكان لذلك ما يعارضه ويبين المراد ولم يعرفه مثل من اعتقد أن الذبيح إسحاق لحديث اعتقد ثبوته أو اعتقد أن الله لا يرى؛ لقوله: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾ [الأنعام: 103] ولقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ [الشورى: 51] كما احتجت عائشة بهاتين الآيتين على انتفاء الرؤية في حق النبي صلّى الله عليه وسلم وإنما يدلان بطريق العموم، وكما نقل عن بعض التابعين أن الله لا يرى وفسروا قوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22، 23] بأنها تنتظر ثواب ربها كما نقل عن مجاهد وأبي صالح، أو من اعتقد أن الميت لا يعذب ببكاء الحي؛ لاعتقاده أن قوله: ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الإسراء: 15] يدل على ذلك؛ وأن ذلك يقدم على رواية الراوي لأن السمع يغلط كما اعتقد ذلك طائفة من السلف والخلف، أو اعتقد أن الميت لا يسمع خطاب الحي؛ لاعتقاده أن قوله: ﴿إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾ [النمل:80] يدل على ذلك، أو اعتقد أن الله لا يعجب كما اعتقد ذلك شريح؛ لاعتقاده أن العجب إنما يكون من جهل السبب والله منزه عن الجهل، أو اعتقد أن عليا أفضل الصحابة؛ لاعتقاده صحة حديث الطير؛ وأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: (اللهم ائتني بأحب الخلق إليك؛ يأكل معي من هذا الطائر)، أو اعتقد أن من جس للعدو وأعلمهم بغزو النبي صلّى الله عليه وسلم فهو منافق، كما اعتقد ذلك عمر في حاطب وقال: دعني أضرب عنق هذا المنافق، أو اعتقد أن من غضب لبعض المنافقين غضبة فهو منافق؛ كما اعتقد ذلك أسيد بن حضير في سعد بن عبادة وقال: إنك منافق تجادل عن المنافقين، أو اعتقد أن بعض الكلمات أو الآيات أنها ليست من القرآن؛ لأن ذلك لم يثبت عنده بالنقل الثابت كما نقل عن غير واحد من السلف أنهم أنكروا ألفاظا من القرآن كإنكار بعضهم: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ﴾ [الإسراء: 23]
وقال: إنما هي ووصى ربك، وإنكار بعضهم قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾ [آل عمران: 81] وقال: إنما هو ميثاق بني إسرائيل وكذلك هي في قراءة عبد الله، وإنكار بعضهم ﴿أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ [الرعد: 31]. إنما هي أولم يتبين الذين آمنوا، وكما أنكر عمر على هشام بن الحكم لما رآه يقرأ سورة الفرقان على غير ما قرأها، وكما أنكر طائفة من السلف على بعض القراء بحروف لم يعرفوها حتى جمعهم عثمان على المصحف الإمام، وكما أنكر طائفة من السلف والخلف أن الله يريد المعاصي؛ لاعتقادهم أن معناه أن الله يحب ذلك ويرضاه ويأمر به، وأنكر طائفة من السلف والخلف أن الله يريد المعاصي؛ لكونهم ظنوا أن الإرادة لا تكون إلا بمعنى المشيئة لخلقها وقد علموا أن الله خالق كل شيء؛ وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن والقرآن قد جاء بلفظ الإرادة بهذا المعنى وبهذا المعنى لكن كل طائفة عرفت أحد المعنيين وأنكرت الآخر، وكالذي قال لأهله: إذا أنا مت فأحرقوني: ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين، وكما قد ذكره طائفة من السلف في قوله: ﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ﴾ [البلد: 5] وفي قول الحواريين: ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾ [المائدة: 112]
وكالصحابة الذين سألوا النبي صلّى الله عليه وسلم هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فلم يكونوا يعلمون أنهم يرونه؛ وكثير من الناس لا يعلم ذلك؛ إما لأنه لم تبلغه الأحاديث وإما لأنه ظن أنه كذب وغلط.
(و) القرن السابع:
(1) قال سيف الدِّين علي بن أبى علي الآمدي (ت: 631ﻫ) فى"الإحكام فى أصول الأحكام":
"المسألة الثالثة: مذهب الجمهور من المسلمين أنه ليس كل مجتهد في العقليات مصيباً وأن الإثم غير محطوط عن مخالف ملة الإسلام سواء نظر وعجز عن معرفة الحق أم لم ينظر.
وقال الجاحظ وعبيد الله بن الحسن العنبري من المعتزلة بحط الإثم عن مخالف ملة الإسلام إذا نظر واجتهد فأداه اجتهاده إلى معتقده وأنه معذور بخلاف المعاند.
وزاد عبيد الله بن الحسن العنبري بأن قال: كل مجتهد في العقليات مصيب وهو إن أراد بالإصابة موافقة الاعتقاد للمعتقد فقد أحال وخرج عن المعقول وإلا كان يلزم من ذلك أن يكون حدوث العالم وقدمه في نفس الأمر حقا عند اختلاف الاجتهاد وكذلك في كل قضية عقلية اعتقد فيها النفي والإثبات بناء على ما أدى إليه من الاجتهاد وهو من أمحل المحالات وما أظن عاقلا يذهب إلى ذلك،
وإن أراد بالإصابة أنه أتى بما كلف به مما هو داخل تحت وسعه وقدرته من الاجتهاد وأنه معذور في المخالفة غير آثم فهو ما ذهب إليه الجاحظ وهو أبعد عن الأول في القبح، ولا شك أنه غير محال عقلاً وإنما النزاع في إحالة ذلك وجوازه شرعاً، وقد احتج الجمهور على مذهبهم بالكتاب والسنة وإجماع الأمة.
أما الكتاب فقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ (ص: 27 )
وقوله: ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [فصلت: 23]
وقوله تعالى: ﴿وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ (المجادلة: 18 )، ووجه الاحتجاج بهذه الآيات أنه ذمهم على معتقدهم وتوعدهم بالعقاب عليه ولو كانوا معذورين فيه لما كان كذلك.
وأما السنة فما علم منه عليه السلام علماً لا مراء فيه تكليفه للكفار من اليهود والنصاري بتصديقه واعتقاد رسالته وذمهم على معتقداتهم وقتله لمن ظفر بهم وتعذيبه على ذلك منهم مع العلم الضروري بأن كل من قاتله وقتله لم يكن معانداً بعد ظهور الحق له بدليله فان ذلك مما تحيله العادة، ولو كانوا معذورين في اعتقاداتهم وقد أتوا بما كلفوا به لما ساغ ذلك منه،
وأما الإجماع فهو أن الأمة من السلف قبل ظهور المخالفين اتفقوا أيضاً على قتال الكفار وذمهم ومهاجرتهم على اعتقاداتهم ولو كانوا معذورين في ذلك لما ساغ ذلك من الأمة المعصومة عن الخطإ".
(2) وقال أبو عبد الله محمَّد القرطبي: ﴿أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ بمعنى لست تفعل هذا ولا عذر للمقلد في التوحيد" [الجامع لأحكام القرآن].
(3) قال الإمام النَّووي (ت: 676ﻫ) فى" شرح مسلم":
(باب من مات لايشركُ بالله): "فأمّا دخول المشرك النار، فهو على عمومه فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق فيه بين الكتابي اليهوديّ والنّصرانيّ، وبين عبدة الأوثان، وسائر الكفرة، ولا فرق عند أهل الحقّ بين الكافر عنادا وغيره، ولا من خالف ملّة الإسلام، وبين من انتسب إليها ثمّ حُكم بكفره بجحده ما يكفرُ بجحده وغير ذلك.
(4) وقال الإمام أحمد بن إدريس القرافي (ت: 684ﻫ) فى"تنقيح الفصول": (الفصل السادس) في التصويب:
قال الجاحظ وعبيد الله بن الحسن العنبري بتصويب المجتهدين في أصول الدين بمعنى نفي الإثم لا بمعنى مطابقة الاعتقاد واتفق سائر العلماء على فساده.
وقال فى"أنواع الفروق": (الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لا يَكُونُ الْجَهْلُ عُذْرًا فِيهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَكُونُ الْجَهْلُ عُذْرًا فِيهِ) اعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ قَدْ تَسَامَحَ فِي جَهَالاتٍ فِي الشَّرِيعَةِ فَعَفَا عَنْ مُرْتَكِبِهَا، وَأَخَذَ بِجَهَالاتٍ فَلَمْ يَعْفُ عَنْ مُرْتَكِبِهَا وَضَابِطُ مَا يُعْفَى عَنْهُ مِنْ الْجَهَالاتِ الْجَهْلُ الَّذِي يُتَعَذَّرُ الاحْتِرَازُ عَنْهُ عَادَةً، وَمَا لا يُتَعَذَّرُ الاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَلا يَشُقُّ لَمْ يَعْفُ عَنْهُ وَلِذَلِكَ صُوَرٌ.
(أَحَدُهَا) مَنْ وَطِئَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً بِاللَّيْلِ يَظُنُّهَا امْرَأَتَهُ أَوْ جَارِيَتَهُ عُفِيَ عَنْهُ ؛ لأَنَّ الْفَحْصَ عَنْ ذَلِكَ مِمَّا يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ.
(وَثَانِيهَا) مَنْ أَكَلَ طَعَامًا نَجِسًا يَظُنُّهُ طَاهِرًا فَهَذَا جَهْلٌ يُعْفَى عَنْهُ لِمَا فِي تَكَرُّرِ الْفَحْصِ عَنْ ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَالْكُلْفَةِ، وَكَذَلِكَ الْمِيَاهُ النَّجِسَةُ وَالأَشْرِبَةُ النَّجِسَةُ لا إثْمَ عَلَى الْجَاهِلِ بِهَا.
(وَثَالِثُهَا) مَنْ شَرِبَ خَمْرًا يَظُنُّهُ جُلابًا فَإِنَّهُ لا إثْمَ عَلَيْهِ فِي جَهْلِهِ بِذَلِكَ.
(وَرَابِعُهَا) مَنْ قَتَلَ مُسْلِمًا فِي صَفِّ الْكُفَّارِ يَظُنُّهُ حَرْبِيًّا فَإِنَّهُ لا إثْمَ عَلَيْهِ فِي جَهْلِهِ بِهِ لِتَعَذُّرِ الاحْتِرَازِ عَنْ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَلَوْ قَتَلَهُ فِي حَالَةِ السَّعَةِ مِنْ غَيْرِ كَشْفٍ عَنْ ذَلِكَ أَثِمَ.
(وَخَامِسُهَا) الْحَاكِمُ يَقْضِي بِشُهُودِ الزُّورِ مَعَ جَهْلِهِ بِحَالِهِمْ لا إثْمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ الاحْتِرَازِ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ عَلَيْك مِنْ هَذَا النَّحْوِ وَمَا عَدَاهُ فَمُكَلَّفٌ بِهِ وَمَنْ أَقْدَمَ مَعَ الْجَهْلِ فَقَدْ أَثِمَ خُصُوصًا فِي الاعْتِقَادَاتِ فَإِنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ قَدْ شَدَّدَ فِي عَقَائِدِ أُصُولِ الدِّينِ تَشْدِيدًا عَظِيمًا بِحَيْثُ إنَّ الإِنْسَانَ لَوْ بَذَلَ جَهْدَهُ وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي رَفْعِ الْجَهْلِ عَنْهُ فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الله تَعَالَى أَوْ فِي شَيْءٍ يَجِبُ اعْتِقَادُهُ مِنْ أُصُولِ الدِّيَانَاتِ، وَلَمْ يَرْتَفِعْ ذَلِكَ الْجَهْلُ فَإِنَّهُ آثِمٌ كَافِرٌ بِتَرْكِ ذَلِكَ الاعْتِقَادِ الَّذِي هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الإِيمَانِ وَيَخْلُدُ فِي النِّيرَانِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ الْمَذَاهِبِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ أَوْصَلَ الاجْتِهَادَ حَدَّهُ، وَصَارَ الْجَهْلُ لَهُ ضَرُورِيًّا لا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يُعْذَرْ بِهِ".
(5) قال عبد السلام بن عبد الله ابن تيمية (590ﻫ - 652ﻫ) فى المسودة: (مسائل أحكام المجتهد والمقلد وغير ذلك)
مسألة المصيب فى الاصوليات من المجتهدين واحد وهو قول الجماعة وحكى عن عبيد الله العنبري أنه قال المجتهدون من أهل القبلة مصيبون مع اختلافهم.
(6) وقال عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيميه (627ﻫ - 682) في المسودة: "ولهذا يكفر جاحد الأحكام الظاهرة المجمع عليها وان كان عاميا دون الخفية فما فرق بينهما في التكفير فرق فى التقليد، وكذلك أيضا منع التقليد فى جميع مسائل الاصول فيه نظر بل الحق ما ذكره القاضي وابن عقيل أن المنع فى التوحيد والرسالة فانهما ركنا الاسلام وفاتحة الدعوة وعاصمة الدم ومناط النجاة والفوز فأما تكليف عموم الناس درك دقائق المسائل الاصولية بالدليل فهو قريب من تكليفهم ذلك فى الفروع فليميز الفرق".
(7) وقال الإمام أحمَد بن عبد الحليم ابن تيميه (661ﻫ- 728ﻫ) فى المسودة: "قال أبو المعالي: ومما يداني مذهب العنبري مذهب أقوام قالوا المصيب واحد فى الاصول ولكن المخطىء معذور ويستحق الثواب لانه بذل جهده فتجرى أحكام الكفرة على الكفرة ويقاتلون فى الدنيا لامر الشارع بذلك ولكن يثابون فى الآخرة اذا لم يكونوا معاندين وقد يتمسكون فى هذا المذهب بقول الله تعالى ان الذين أمنوا والذين هادوا الآية
وقال الجاحظ وثمامة المعارف ضرورية وما أمر الرب الخلق بمعرفته ولا بالنظر بل من حصلت له المعرفة وفاقا فهو مامور بالطاعة فمن عرف وأطاع استحق الثواب ومن عرف ولم يطع خلد فى النار وأما من جهل الرب فليس مكلفا فإن مات جاهلا لم يعاقب ثم منهم من قال يصير ترابا ومنهم من قال يصير الى الجنة فعوام الكفرة أحسن حالا من فسقة العارفين بالله وشنع على هذه المذاهب بعد شناعه على العنبري قال والمخطىء فى الاصول لا شك فى تأثيمه وتفسيقه وتبديعه وتضليله واختلف فى تكفيره.
وقال: "وكذلك قال أبو الخطاب الذى لا يسوغ التقليد فيها هو معرفة الله ووحدانيته ومعرفة صحة الرسالة وذكر أن الادلة على هذه الاصول الثلاثة يعرفه كل أحد بعقله وعلمه وإن لم يقدر العامى على أن يعبر عنه قال وبه قال عامة العلماء وقال بعض الشافعية يجوز للعامى التقليد فى ذلك قال ولا يختلف الشافعية أنه ليس للمكلف المسلم أن يقلد فى وجوب الصلاة والصوم عليه ونحو ذلك، فأولى أن لا يجوز التقليد فى الوحدانية والنبوة ثم قال وكذلك أصول العبادات كالصلوات الخمس وصيام رمضان وحج البيت والزكاة فان الناس أجمعوا على أنه لا يسوغ فيها التقليد لأنه ثبت بالتواتر ونقلته الأمة كلها خلفها عن سلفها"
وقال في (الردّ على الإخنائى): "وكثير من الناس يقع في الشرك والإفك جهلاً وضلالاً من المشركين وأهل الكتاب وأهل البدع"،
وقال أيضاً في (الصارم المسلول): بعد أن بيّن أنّ كلام الله خبرٌ وأمرٌ: "فيصدق القلب أخباره تصديقاً يوجب حالاً في القلب بحسب المصدّق به والتصديق هو من نوع العلم والقول،، وينقاد لأمره ويستسلم، وهذا الانقياد والاستسلام هو من نوع الإرادة والعمل ولا يكون مؤمناً إلاّ بمجموع الأمرين، فمن ترك الانقياد كان مستكبراً فصار من الكافرين وإنّ كان مصدّقاً فالكفر أعمّ من التكذيب، يكون تكذيباً وجهلاً ويكون استكباراً وظلماً"
وقال في آية سورة النور: "فضرب الله سبحانه المثلين ليبيّن حال الاعتقاد الفاسد ويبيّن حال عدم معرفة الحقّ وهو يشبه حال المغضوب عليهم والضالين، حال المصمّم على الباطل حتى يحلّ به العذاب وحال الضالّ الذي لا يرى طريق الهدى" (مفصل الاعتقاد/ص: 75)،،
وقال في (درء تعارض العقل والنقل): ﴿أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ ذكر لهم حجتين يدفعهما هذا الإشهاد:
(أحدهما): ﴿إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ فبيّن أنّ هذا علم فطري ضروري لا بد لكل بشر من معرفته وذلك يتضمن حجة الله في إبطال التعطيل وأنّ القول بإثبات الصانع علم فطريّ ضروري وهو حجة على نفي التعطيل.
(الثاني): ﴿أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ فهذا حجّة لدفع الشرك كما أنّ الأول حجة لدفع التعطيل، فالتعطيل مثل كفر فرعون ونحوه، والشرك: مثل شرك المشركين من جميع الأمم.
قال: ومقتضى الطبيعة العادية أن يحتذى الرجل حذو أبيه حتى في الصناعات والمساكن والملابس والمطاعم، إذ كان هو الذي رباه ولهذا كان أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه،، فإذا كان هذا مقتضى العادة الطبيعية، ولم يكن في فطرتهم وعقولهم ما يناقض ذلك، قالوا: نحن معذورون، وآباؤنا هم الذين أشركوا ونحن كنّا ذرية لهم بعدهم اتّبعناهم بموجب الطبيعة المعتادة ولم يكن عندنا ما يبيّن خطأهم، فإذا كان في فطرتهم ما شهدوا به من أنّ الله وحده هو ربّهم كان معهم ما يبيّن بطلان هذا الشرك وهو التوحيد الذي شهدوا به على أنفسهم فإذا احتجّوا بالعادة الطبيعية من اتّباع الآباء، كان الحجة عليهم الفطرة الطبيعية العقلية السابقة لهذه العادة الأبوية، كما قال صلّى الله عليه وسلم: "كلّ مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" فكانت الفطرة الموجبة للإسلام سابقة للتربية التي يحتجون بها، وهذا يقتضى أنّ نفس العقل الذي به يعرفون التوحيد حجة في بطلان الشرك لا يحتاج ذلك إلى رسول، فإنه جعل ما تقدّم حجة عليهم بدون هذا.
وهذا لا يناقض قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ فإنّ الرسول يدعو إلى التوحيد، لكن إن لم يكن في الفطرة دليل عقليّ يعلم به إثبات الصانع لم يكن في مجرّد الرسالة حجة عليهم، فهذه الشهادة على أنفسهم التي تتضمن إقرارهم بأنّ الله ربّهم، ومعرفتهم بذلك وأنّ هذه المعرفة والشهادة أمر لازم لكلّ بني آدم، به تقوم حجة الله تعالى في تصديق رسله، فلا يمكن أحداً أن يقول يوم القيامة: إني كنت عن هذا غافلاً ولا أنّ الذنب كان لأبي المشرك دوني، لأنّه عارف بأنّ الله ربه لا شريك له، فلم يكن معذوراً في التعطيل والإشراك بل قام به ما يستحقّ به العذاب، ثم أنّ الله سبحانه –بكمال رحمته وإحسانه– لا يعذّب أحداً إلاّ بعد إرسال رسول إليهم وإن كانوا فاعلين لما يستحقون به الذم والعقاب، كما كان مشركو العرب وغيرهم ممن بعث إليهم رسول، فاعلين للسيئات والقبائح التي هي سبب الذم والعقاب والربّ تعالى مع هذا لم يكن معذّباً لهم حتى يبعث إليهم رسولاً" (إ ﻫ)،
وبيّن الإمام ابن تيمية: أنّ مذهب أهل السنّة والجماعة في حكم الشرك والفواحش قبل نزول العلم هو أنّ ذلك شرّ وقبح بخلاف مذهب الجهمية والأشعرية القائلين بأنّ ذلك صار شرّاً وقبحاً بعد نزول العلم وكان قبل ذلك كفعل الصبيان والمجانين قال في صفحة 676من [مجموع الفتاوى: م، 11].
"والجمهور من السلف والخلف على أنّ ما كانوا فيه قبل مجيء الرسول من الشرك والجاهلية شيئا قبيحاً، وكان شرّاً لكن لا يستحقون العذاب إلاّ بعد مجيء الرسول: ولهذا كان للناس في الشرك والظلم والكذب والفواحش ونحو ذلك "ثلاثة أقوال"
قيل: إنّ قبحها معلوم بالعقل وأنّهم يستحقّون العذاب على ذلك في الآخرة وإن لم يأتهم الرسول، كما يقوله المعتزلة، وكثير من أصحاب أبي حنيفة وحكوه عن ابى حنيفة نفسه وهو قول أبى الخطاب وغيره،
وقيل: لا قبح ولا حسن ولا شرّ فيها قبل الخطاب، وإنّما القبيح ما قيل فيه لا تفعل، والحسن ما قيل فيه افعل، أو ما أذن في فعله، كما تقول الأشعرية، ومن وافقهم، من الطوائف الثلاثة.
وقيل: إنّ ذلك سيئ وشرّ، وقبيح قبل مجيء الرسول لكنّ العقوبة إنّما تستحق بمجيء الرسول وعلى هذا عامة السلف وأكثر المسلمين، وعليه يدلّ الكتاب والسنّة فإنّ فيهما بيان أنّ ما عليه الكفّار هو شرّ وقبيح وسيئ قبل الرسل وإن كانوا لا يستحقون العقوبة إلاّ بالرسول، وفي الصحيح أنّ حذيفة قال: يا رسول الله: إنّا كنّا في جاهلية وشرّ فجاءنا الله بِهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شرّ، قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنّم من أجابَهم إليها قذفوه فيها».
وقال: وقد أخبر الله تعالى عن قبح أعمال الكفّار قبل أن يأتيهم الرسول كقوله لموسى: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى﴾. [النازعات: 17-19].
وقال: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ﴾. [القصص: 4-6].
فهذا خبر عن حاله قبل أن يولد موسى وحين كان صغيراً قبل أن يأتيه برسالة إنّه كان طاغياً مفسداً،
وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى، إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى، أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ﴾
هو فرعون، فهو إذ ذاك عدو الله ولم يكن جاءته الرسالة بعد.
وقال: أمر الله الناس أن يتوبوا ويستغفروا مما فعلوه فلو كان كالمباح المستوى الطرفين المعفو عنه وكفعل الصبيان والمجانين ما أمر بالاستغفار والتوبة، فعلم أنّه كان من السيئات القبيحة لكن الله لا يعاقب إلاّ بعد إقامة الحجّة، وهذا كقوله تعالى: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. أَلا تَعْبُدُوا إِلاّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ. وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ﴾ [هود: 1-3]
وقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ [فصلت: 6-7]
وقال تعالى: ﴿إنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ﴾ [نوح: 1-3]،
وقال عن هود: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ مُفْتَرُونَ. يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ. وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ﴾ [هود: 50-52].
فأخبر في أول خطابه أنّهم مفترون بأكثر الذي كانوا عليه كما قال لهم في الآية الأخرى: ﴿قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ [الأعراف: 71].
وكذلك قال صالح عليه السلام: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾ [هود: 61].
وكذلك قال لوط لقومه: ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: 80].
فدلّ على أنّها كانت فاحشة عندهم قبل أن ينهاهم بخلاف قول من يقول ما كانت فاحشة ولا قبيحة ولا سيئة حتى نهاهم عنها، ولهذا قال لهم: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [العنكبوت: 29].
وهذا خطاب لمن يعرفون قبح ما يفعلونه،ولكن أنذرهم بالعذاب.
وكذلك قول شعيب: ﴿وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [هود: 85].
بيّن أنّ ما فعلوه كان بخسا لهم أشياءهم وأنّهم كانوا عاثين في الأرض مفسدين قبل أن ينهاهم بخلاف قول "المجبرة" إنّ ظلمهم ما كان سيئة إلاّ لما نَهاهم وأنّه قبل النهي كان بمنزله سائر الأفعال من الأكل والشرب وغير ذلك، كما يقولون في سائر ما نَهت عنه الرسل من الشرك والظلم والفواحش.
وهكذا إبراهيم الخليل قال: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا، إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاّ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا، يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا، يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا، يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾ [مريم: 41-42]، فهذا توبيخ على فعله قبل النهي.
وقال أيضاً: ﴿وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ. إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ. إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ. أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ. فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الصافات: 83-87]، فأخبر أنّهم يخلقون إفكاً، قبل النهي.
وكذلك قول الخليل لقومه أيضاً: ﴿فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ، قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ، وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [94-96].
أي وخلق ما تنحتون فكيف يجوز أن تعبدو ما تصنعون بأيديكم؟ وتدعون ربّ العالمين، فلولا إن حسن التوحيد وعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وقبح الشرك ثابت في نفس الأمر معلوم بالعقل، لم يخاطبهم بِهذا إذ كانوا لم يفعلوا شيئاً يذمّون عليه، بل كان فعلهم كأكلهم وشربهم وإنّما كان قبيحاً بالنهي، ومعنى قبحه كونه منهياً عنه لا لمعنى فيه كما تقوله المجبرة، (إ ﻫ)
وقال: وكذلك أخبر عن هود أنه قال لقومه: ﴿اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُفْتَرُونَ﴾ [هود: 50] فجعلهم مفترين قبل أن يحكم بحكم يخالفونه؛ لكونهم جعلوا مع الله إلها آخر فاسم المشرك ثبت قبل الرسالة؛ فإنه يشرك بربه ويعدل به ويجعل معه آلهة أخرى ويجعل له أندادا قبل الرسول ويثبت أن هذه الأسماء مقدم عليها وكذلك اسم الجهل والجاهلية يقال: جاهلية وجاهلا قبل مجيء الرسول وأما التعذيب فلا، والتولي عن الطاعة كقوله: ﴿فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى، وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ [القيامة: 31، 32] فهذا لا يكون إلا بعد الرسول مثل قوله عن فرعون: ﴿فَكَذَّبَ وَعَصَى﴾ [النازعات:21] كان هذا بعد مجيء الرسول إليه كما قال تعالى: ﴿فَأَرَاهُ الآَيَةَ الْكُبْرَى ،فَكَذَّبَ وَعَصَى﴾ [النازعات: 21، 22] وقال: ﴿فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ﴾ [المزمل: 16]، [الفتاوى: 20/37]
(هـ) القرن السادس:
(1) وقال القاضي عياض (476ﻫ -544 ﻫ) في "الشفا": "ذهب العنبري إلى تصويب أقوال المجتهدين في أصول الدين فيما كان عرضة للتأويل وحكى القاضي ابن الباقلاني مثله عن داود بن علي الأصفهاني، وحكى قوم عنهما أنهما قالا ذلك فيمن علم الله من حاله استفراغ الوسع في طلب الحق من أهل ملتنا وغيرهم،
وقال الجاحظ نحو هذا القول، وتمامه في أن كثيرا من العامة والنساء والبله مقلدة النصارى واليهود وغيرهم لا حجة لله تعالى عليهم، إذ لم يكن لهم طباع يمكن معها الاستدلال، وقد نحا الغزالي قريبا من هذا المنحى في كتاب "التفرقة بين الإسلام والزندقة "وقائل هذا كله كافر بالإجماع على كفر من لم يكفر أحدا من النصارى واليهود، وكل من فارق دين المسلمين ووقف في تكفيرهم أو شك، لقيام النص والإجماع على كفرهم، فمن وقف فيه فقد كذب النص، انتهى -نقلا عن البحر المحيط للزركشي-.
(2) وقال الإمام أبو محمَّد ابن قدامة الحنبلى (ت: 620ﻫ) فى "روضة النَّاظر": "الحقُّ فى قول واحد من المجتهدين، ومن عداه مخطئ سواء كان فى فروع الدِّين أوأصوله، لكنَّها إن كان فى فروع الدِّين مما ليس فيه دليل قاطع من نصٍّ أو إجماع فهو معذور غير آثم وله أجرٌ على اجتهاده". قال: "وزعم الجاحظ أنَّ مخالف ملَّة الإسلام إذا نظر فعجز عن درك الحقِّ فهومعذور".
وقال عبيد الله العنبرى: "كلُّ مجتهد مصيب فى الأصول و الفروع جميعا" وهذه أقاويل باطلة، أمَّا الَّذى ذهب إليه الجاحظ فباطل يقينا وكفر بالله تعالى، وردٌ عليه وعلى رسوله صلّى الله عليه وسلم ، فإنَّا نعلم قطعا أنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلم أمر اليهود والنَّصارى بالإسلام واتِّباعه، وذمَّهم على إصرارهم، ونقاتل جميعهم، ونقتل البالغ منهم، ونعلم أنَّ المعاند العارف مما يقل، وإنَّما الأكثر مقلَّدة إعتقدوا دين آبائهم تقليدا ولم يعرفوا معجزة الرَّسول وصدقه، والآيات الدالَّة فى القرآن على هذا كثيرة كقوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ [ص: 27].
﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [فصلت: 23].
﴿إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ﴾ ﴿وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ﴾ ﴿وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾
﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ﴾
وفى الجملة ذمُّ المكذِّبين لرسول الله صلّى الله عليه وسلم مما لا ينحصر فى الكتاب و السنَّة.
وقول العنبري: كلُّ مجتهد مصيب إن أراد أنَّهم لم يُؤمروا إلابما هم عليه فهو كقول الجاحظ وإن أراد أنَّ ما إعتقده فهو على ما إعتقده فمحال، إذ كيف يكون قدم العالم وحدوثه حقًّا، وتصديق الرَّسول وتكذيبهووجود الشئ ونفيه، وهذه أمور ذاتية لا تتبع الإعتقاد بل الإعتقاد يتبعها فهذا شرٌّ من مذهب الجاحظ، بل شرٌّ من مذهب السوفسطائية، فإنَّهم نفوا حقائق الأشياء وهذا أثبتها وجعلها تابعة للمعتقدات.
وقد قيل إنَّما أراد إختلاف المسلمين، وهو باطل كيف ما كان، إذ كيف يكون القرآن قديما مخلوقا، والُّرؤية محالا ممكنا، وهذا محال، [روضة الناظر: 2|414]
وجاء في زاد المستنقع: باب حكم المرتد: وهو الذي يكفر بعد إسلامه، فمن أشرك بالله، أو جحد ربوبيته أو وحدانيته أو صفة من صفاته، أو اتخذ للَّه صاحبة أو ولداً، أو جحد بعض كتبه أو رسله، أو سب الله أو رسوله: فقد كفر، ومن جحد تحريم الزنا أو شيئاً من المحرمات الظاهرة المجمع عليها بجهل: عرِّف ذلك، وإن كان مثله لا يجهله: كفر.
(ط) القرن العاشر:
(1) وقال محمد بن أحمد المعروف بابن النجار (ت: 972ﻫ) في كتابه (شرح الكوكب المنير): "ومن جهل وجود الله تعالى جلّ وعزّ أو علمه وفعل ما لا يصدر إلا من كافرٍ أو قال ما لا يصدر إلاّ من كافر إجماعاً فهو كافر ولو كان مقرّاً بالإسلام"، [شرح الكوب المنير: 4/385].
وقال أيضاً: "ونافي الإسلام مُخطئٌ آثم كافرٌ مطلقاً يعني سواء قال ذلك اجتهاداً أو بغير اجتهاد عند أئمة الإسلام"، [شرح الكوكب المنير: 4/ 488].
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين أما بعد:
فهذه رسالة ثانية من سلسلة "صيانة الفكر" ومقصدها الأصلي هو دحض حجة باطلة من أقوى حجج أهل الزيغ والضلال المحاربين للتوحيد ولعقيدة "الولاء والبراء". وهي قولهم: "أنّ الجاهل لا يكفر بالشرك الأكبر ويكون معذوراً عند الله".. وسوف تعرف من الأدلّة ما يكفى لمعرفة بطلان هذه الشبهة وضلال أهلها.
إنّ أعداء التوحيد جادلوا في ابتداء أمرهم بالباطل فقالوا: "إنّ من قال "لا إله إلاّ الله" وصلّى إلى القبلة لا يجوز تكفيره بما يصدر منه من الشرك الأكبر". ولكنّ الله أظهر لنا ضعف هذه الشبهة وعوارها لما تعلّمنا أنّ التوبة من الشرك والبراءة منه شرط لصحة شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأنّ من لم يأت بالشرط لم تصحّ شهادته، وذلك من قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ [التوبة].
وقوله صلّى الله عليه وسلم: {من قال لا إله إلاّ الله وكفر بما يُعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عزّ وجلّ}. [مسلم] .
ومن أمره صلّى الله عليه وسلم بقتال الخوارج الذين كانوا من أكثر النّاس صلاةً وصياماً وقراءةً للقرآن المشحون بـ"لا إله إلاّ الله" ومن إجماع السلف الصالح في أفضل القرون في خلافة أفضل هذه الأمّة بعد نبيّها صلّى الله عليه وسلم أبي بكر الصديق على قتال مانعي الزكاة وبني حنيفة، ولم تكن واحدة من هاتين الطائفتين تنكر الصلاة إلى القبلة ولا قول "لا إله إلاّ الله". وبعد ظهور الأدلّة وتضافرها لم تعد هذه الفكرة الضالّة والشبهة الشيطانية تنطلي إلا على الجهال من الناس وضعفاء البصيرة المقلّدين لسادتهم وكبرائهم.
ولكنّ أهل الضلال و الانحراف لم ينسحبوا من الميدان بعد تلك الهزيمة النكراء لمعتقدهم، ولكنّ جادلوا مرّة أخرى بالباطل، بشبهة زيّنها لهم الشيطان، فقالوا:"الجاهل لا يكفر بالشرك الأكبر ومعذور بالجهل"،وقالوا إنّه كالمجنون والطفل الصغير والنّاسي والمكره في رفع القلم عنه. وظنّوا أنّها حجّةٌ قاهرةٌ قادرةٌ على القضاء على التوحيد وعقيدة الولاء والبراء، وعلى إطفاء نور الله ﴿وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾. فإنّ الله تعالى –وله الحمد– أظهر بأدلة القرآن القطعية بطلانها، وأزال عن القلوب آثارها فولّت منهزمة بضُعفها وقبحها وقزامتها، ولم تعد كما كانت من ذي قبل عملاقاً ضخماً يخيف الآمنين ويشكّك الموحدين .. وهي اليوم تنفس أنفاسها الأخيرة في طريقها إلى الزوال إن شاء الله، ولله الحمد والمنّة. ﴿وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [ النور: 46 ]
(رمضان 1429ﻫ).
(الخامسة) العذر بالجهل في المسائل الجزئية:
(أولاً): إنّ المسلم الذي آمن بالله وعبده بلا شريك وآمن بملائكة الله وكتبه ورسله واليوم الآخر يمكن أن يجهل صفة من صفات الله فيعذر بالجهل ولا يكفّر إلاّ بعد البيان وإقامة الحجة عليه، والأحاديث الآتية تدلّ علي ذلك:
عن حذيفة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: {كان رجلٌ ممن كان قبلكم يسيء الظنّ بعمله فقال لأهله: إذا أنا مت فخذوني فذروني في البحر في يوم صائف، ففعلوا به، فجمعه الله، ثم قال: ما حملك على الذي صنعتَ، قال: ما حملني إلاّ مخافتك فغفر له} (متفق عليه)،
وعن أبي هريرة أنّ ناساً قالوا: يا رسول الله: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضارّون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب؟، قالوا لا، قال: إنّكم ترون ربكم كذلك) (متفق عليه)،
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال: {ياءيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنّكم لا تدعون أصم ولا غائباً أنّ الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته، إنّه معكم إنّه سميع قريب تبارك اسمه وتعالى جده}، (البخاري)
وقال صلّى الله عليه وسلم عن الدجال: {تعلمون أنّه أعور وأنّ الله ليس بأعور}(متفق عليه)،
وقال الحسن البصري في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾ الآتية :سببها أنّ قوماً قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: "أ قريبٌ ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه" فنَزلتْ الآية،
وروى ابن جرير عنه أنه قال: "سأل أصحاب النبي، النبي صلّى الله عليه وسلم: "أين ربنا؟" فأنزل الله تعالى ذكره ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ﴾ الآية،
وقد كان المشركون وأهل الكتاب يعلمون بوجود الله وربوبيته وألوهيته إلاّ أنّهم كانوا يجعلون له شركاء يعبدونهم في صورة من صور العبادة وكانت دعوة الإسلام تحارب هذا الشرك وتدعوا الناس إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله، فإذا شهدها الإنسان وكفر بالآلهة الباطلة كان يدخل بتلك الشهادة الإسلام دون أن يسأل عن صفات الله بالتفصيل، ولكنّه بعد إسلامه كان يتعلّم ما جهله من صفات الربّ من الكتاب والسنّة، وقد كانوا يأتون إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وهم يسألونه عن بعض الصفات كما نرى ذلك من الأحاديث السابقة، أما إذا جحد الإنسان الصفة الثابتة بنصٍّ قطعيٍّ بعد علمه بها فإنه يصير بذلك الجحود كافراً لأنّه صار رادّاً للحقّ معارضاً لأخبار الله، ولذا قال الإمام الشافعي: "لله أسماء وصفات لا يسع أحداً ردّها ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنّه يعذر بالجهل، نثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].
وهناك من يخطئ في الاستدلال بالأحاديث المتقدمة فيجعل جاهل التوحيد كجاهل الصفة، وينقل كلام العلماء في جاهل الصفة لتبرئة جاهل التوحيد دون أن ينظر إلى كلامهم في جاهل التوحيد خاصة،
وقد قال الإمام ابن تيمية في الردّ على المتكلمين لما ذكر أنّ أئمتهم توجد منهم الردّة عن الإسلام كثيراً قال: "وهذا إن كان في المقالات الخفية فقد يقال فيها مخطئ ضالٌ لم تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها ولكن هذا يصدر عنهم في أمور يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعث بها وكفر من خالفها مثل: عبادة الله وحده لا شريك له ونهيه عن عبادة أحد سواه من الملائكة والنبيين وغيرهم فإنّ هذا أظهر شعائر الإسلام،، ومثل إيجاب الصلوات الخمس وتعظيم شأنها ومثل تحريم الفواحش كالزنا والربا والخمر والميسر ثم تجد كثيراً من رؤوسهم وقعوا فيها فكانوا مرتدين" [اقتضاء الصراط المستقيم].
فقد بيّن الإمام أنّ من أنكر التوحيد الذي هو أظهر شعائر الإسلام يكون عند ذلك مرتداً، وينبغي التنبيه على أنّ الجهل بالصفة ليس على درجة واحدة، فمن صفات الله ما لا يمكن أن يكون جاهلها مسلماً عاملاً بالتوحيد، مثل أن يجهل أنّ الله "حيٌ قيوم" أو أنّ الله "واحدٌ أحد" أو أنّ الله "خالق الكون" وعندما يقول العلماء أنّ جاهل الصفة لا يكفّر قبل إقامة الحجة الرسالية عليه فإنّهم لا يقصدون هذه الصفات وأمثالها، وإنما يقصدون بعض الصفات الجزئية التي كان ينكرها أو يعطلها بعض الفرق مع ثبوتها بالأدلَّة، مثل:
(1) رؤية الله في الآخرة،
(2) إنّ الله استوى على عرشه حقيقة كما يليق بجلاله،
(3) إنّ القرآن كلام الله وأنّ الله لم يزل متكلماً إذا شاء،
(4) نسبة الوجه واليدين والسمع والبصر إلى الله مع تنـزيهه عن مشابهة المخلوقين: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].
(5) نزول الله في كلّ ليلة إلى السماء الدنيا كما ورد في الحديث الصحيح.
(ثانياً): وكذلك يُعذر المسلم بالجهل في الفروع لأنّ الأحكام إنّما أوجب الشرع الالتزام بها بعد العلم وبلوغ الخطاب للمكلّف، فمن لم يبلغه حكم من الأحكام لا يكون آثماً إذا عمل بخلافه، وذلك إذا لم يكن مقصّراً في طلب العلم، فمثلاً إذا نزل الشرع بتحريم شيء يكون ذلك الشيء محرّماً ابتداءً من وقت نزول الحكم، ومن وقع فيه يكون آثماً إذا كان عالماً بالتحريم، أما من وقع في المحرّم قبل أن يعلم ما نزل من التحريم، كمن كان غائباً وقت نزول الحكم، فإنّ الإثم لا يلحقه وحكمه حكمُ الواقع في المحرّم قبل نزول التحريم:
قال تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [المائدة: 93].
وقال تعالى: ﴿لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: 68].
وقال تعالى: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 275].
وقال تعالى: ﴿وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء: 22]
وقال تعالى: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء: 23].
ولذلك كانت صلاة المسلمين الذين كانوا بأرض الحبشة إلى بيت المقدس صحيحة عند نزول الأمر باستقبال الكعبة على النبي صلّى الله عليه وسلم بالمدينة.
قال ابن عمر رضي الله عنهما: "بينما الناس في صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم آت فقال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة" (متفق عليه).
وقد تكلّم معاوية بن الحكم رضي الله عنه في الصلاة فلم يؤمر بالإعادة بل أرشده صلّى الله عليه وسلم قائلاً: "إنّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنّما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" (مسلم).
"وسجد معاذ بن جبل رضي الله عنه لرسول الله صلّى الله عليه وسلم جاهلاً بحرمة هذه التحية في شريعة الإسلام، وليست كما كانت في الشرائع السابقة"
ولكن ينبغي التنبيه على أنّ من أحكام الشريعة الإسلامية ما لا يمكن أن يجهلها المسلم في دار الإسلام لظهورها مثل وجوب الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان والزكاة والحج ووجوب الجهاد وبرّ الوالدين وتحريم الخمر والميسر وقتل النفس إلاّ بالحق وتحريم الربا ونكاح ذوات المحارم وغير ذلك من الأحكام ولذا قال العلماء: إنّها " من المعلوم من الدين بالضرورة " وقالوا بكفر من جحدها وإن ادّعى الجهل إلاّ إذا كان حديث عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة عن مظان العلم،
أمّا إذا قلّ العلم وظهر الجهل واندرست معالم الشريعة ولم يبق إلاّ التوحيد، ونشأ الناس وهم لا يدرون الصلاة والصيام والصدقة وغير ذلك من واجبات الدين، إذا وقع هذا في زمن من الأزمنة في بيئة من البيئات، فإنّ الناشئ فيها وهو لا يدري غير التوحيد يكون معذوراً بالجهل، وحكمه حكم من آمن بالنبي صلّى الله عليه وسلم في أوائل الدعوة قبل أن يخاطبوا بالصلاة والصيام والصدقة وغير ذلك، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: {يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدري ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة ويسرى على كتاب الله عزّ وجلّ فلا يبقى منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة "لا إله إلاّ الله" فنحن نقولها" فقال له صلة: ما تغني عنهم "لا إله إلاّ الله" وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة فأعرض عنه حذيفة ثم ردّها عليه ثلاثاً كلّ ذلك يعرض عنه حذيفة ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: "تنجيهم من النار" ثلاثاً}،،
أما إذا قصّر الإنسان في طلب العلم ولم يحاول جهده في معرفة الحقّ وإنّما رضى بالقعود مع الجهل فإنّه يكون آثماً مسئولاً أمام الله عما خالف من الشريعة وعما ارتكب من المعاصي بغير علم كما روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: {من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار} (الترمذي)،،
وعن بريدة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنّة، رجلٌ قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل عرف الحقّ وقضى بخلافه فهو في النار ورجل علم الحقّ وقضى به فهو في الجنّة} (أبو داود/الترمذي)،
قال الإمام (ابن تيمية): "فهذا الذي يجهل وإن لم يتعمد خلاف الحقّ فهو في النار بخلاف المجتهد الذي قال فيه النبي صلّى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجرٌ" فهذا جعل له أجراً مع خطئه لأنّه اجتهد فاتقى الله ما استطاع بخلاف من قضى بما ليس له به علم وتكلّم بدون الاجتهاد المسوغ له الكلام" (الردّ على الإخنائي).
(السادسة): "القول فى مصير أهل الفترة في الآخرة"
1ـ ذهب فريق من العلماء إلى امتناع وجود من لم تبلغه الدعوة إلى التوحيد واستدلوا بذلك قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر:24].
و ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36].
و ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ﴾ [الملك: 8-9].
وغير ذلك من الآيات التي في هذا المعنى.
واستدلوا أيضاً بحديث وفد "بني المنتفق" الذي فيه: "ذلك بأنّ الله بعث في كلّ سبع أمم نبياً فمن عصا نبيه كان من الضالين ومن أطاع نبيه كان من المهتدين" (أحمد)،
وحديث عائشة رضي الله عنها، قالت: "قلتُ يا رسول الله ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذاك نافعه؟، قال: {لا ينفعه إنّه لم يقل يوماً ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدِّين}، [مسلم].
ورأوا أنَّ حديث "الإمتحان"ضعيفٌ لا تقوم بمثله حجَّة.
قال الإمام إبن عبد البرّ: "أحاديث هذا الباب ليست قويَّة، ولا تقوم بها حجَّة، وأهل العلم ينكرونها، لأنَّ الآخرةَ دار جزاء وليست دار عمل ولا إبتلاء، وكيف يُكلَّفون دخول النَّار وليس ذلك فى وسع المخلوقين، والله لايكلِّفُ نفساً إلا وسعها"(ذكره إبن كثيرفى تفسيره )
وقال الإمام النووي فى"شرح مسلم": قوله: (أن رجلاً قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: في النار، فلما قفى دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار) فيه أن من مات على الكفر فهو في النار ولا تنفعه قرابة المقربين، وفي أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة، فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم.
2ـ وذهب فريق آخر من العلماء إلى وجود " أهل الفترة" الذين لم تبلغهم الدعوة، وماتوا قبل مجئ الرُّسل، كما يُفهم من قوله تعالى: ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاً يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النِّساء: 165]
وقوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ﴾ [المائدة: 19].
ومرادهم بـ "أهل الفترة" هو كلُّ من أنكر الشرك واجتهد فى معرفة الحقِّ فعجز عن دركه، وليس كلَّ من رضي بما أدركه من الشرك والجاهليَّة، كما بيَّن ذلك الشاطبيُّ فى كلامه المتقدِّم.
وكذلك قال إبن القيِّم فى "طريق الهجرتين": "وأمَّا العاجز عن السؤال والعلم الَّذى لم يتمكن من العلم بوجه فهم قسمان أيضا:
*أحدهما: مريد للهدى مؤثِّر له محبٌّ له، غير قادر عليه ولا على طلبه لعدم من يرشده، فهذا حكم أرباب الفترات ومن لم تبلغه الدعوة.
*والثانى: معرضٌ لا إرادة له، ولا يُحدثُ نفسه بغير ما هو عليه، فالأول: يقول: يا ربّ، لو أعلم ديناً خيرا مما أنا عليه لدنت به وتركت ما أنا عليه، ولكنِّى لاأعرف سوى ما أنا عليه، ولا أقدر عليه، فهو غاية جهدى ونهاية معرفتى، والثانى: راض بما هو عليه، لا يؤثِّر غيره عليه ولا تطلب نفسه سواه، قال: "ففرقٌ بين عجز الطالب وعجز المعرض". اﻫ
وقال هذا الفريق من العلماء: إنّ الله سيمتحنهم يوم القيامة فيكون فريق في الجنة وفريق في السعير، واستدلوا بحديث الأربعة: عن الأسود بن سريع رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: "أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصمّ لا يسمع شيئاً، ورجلٌ أحمقٌ، ورجلٌ هرمٌ ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول: ربّ قد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً، وأما الأحمق فيقول: ربّ قد جاء الإسلام والصبيان يحذفونى بالبعر، وأما الهرم فيقول: ربّ لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً، وأما الذي مات في فترة فيقول: رب ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنّه، فيرسل إليهم أن أدخلوا النار فو الذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً"- (أحمد).
ورواه أبو هريرة وزاد: "ومن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً ومن لم يدخلها يسحب إليها"،،
قال ابن كثير فى التفسير في قوله تعالى: "وما كنا معذبين "الآية": "إنّ أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد نصّ على ذلك كثير من أئمة العلماء، ومنها ما هو حسن ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن، وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متّصلة متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها"
وأسلم الطرق أن نقول ما قاله "الإمام ابن القيم": "والله يقضى بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله، ولا يعذب إلاّ من قامت عليه حجته بالرسل فهذا مقطوع به في جملة الخلق، أما كون زيد بعينه أو عمرو قامت عليه الحجة أم لا فذلك مما لا يمكن عليه الدخول بين الله وبين عباده فيه، بل الواجب على العبد أن يعتقد:
· أنّ كلّ من دان بدين غير الإسلام فهو كافرٌ،
· وأنّ الله سبحانه وتعالى لا يعذّب أحداً إلاّ بعد قيام الحجة عليه بالرسول.
هذا في الجملة والتعيينُ موكول إلى الله وهذا في أحكام الثواب والعقاب، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر" (طريق الهجرتين).