{أولاً} إنها أمة مؤمنة بالله، تعبده وتفرده بالعبادة، كافرة بالمعبودات والطواغيت البشرية وغير البشرية، ولذلك صارت أمة موالية للموحّدين من كل جنس وقبيل، معادية للمشركين متبرأة منهم ومما يعملون من أيّ جنس كانوا ومن أي قبيل انتسبوا إليه. فمن صفاتها في كتاب الله قوله تعالى: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ﴾ [المجادلة: 22]
{ثالثا} إنها أمة لها غاية واحدة هي بلوغ رضى الله ونيل جنته ليس هدفها العلوّ في الدنيا والفساد فيها. قال الله تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص: 84].
وهي أمةٌ واعيةٌ مدركةٌ للغاية التي خُلقت لتحقيقها، وتعلم أنها لا تدرك غايتها -رضى الله والجنة- حتى تستسلم لله بالطاعة المطلقة وتُنفّذ أوامره الفردية والجماعية التي منها الجهاد لإعلاء كلمة الله وإظهار دينه على الأديان. قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 33].
فدلّت الآيات على أن الإيمان والتوحيد القلبيّ والقوليّ مع الخوف الشديد من عذاب الآخرة، والرجاء الصادق لدخول الجنة مع الذكر المستمرّ قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم لا يحقّق الغاية العظمى المنشودة .. حتى يقترن كل ذلك بالعمل والسعي لإعلاء كلمة الله والتعرّض للأخطار وللقتل والقتال والخروج عن الديار والأحباب فعندئذ تُدرك الغاية ويستحقّ المؤمن حسن الثواب.
{رابعاً} إنها أمة مستعلية على الحياة الدنيا .. لا تعصي الله للحرص على البقاء فيها أو الازدياد منها .. تعلم أن الإيمان أغلى من الحياة الدنيا، فهي تهلك الأموال والأنفس للبقاء على الإيمان، ولا تهلك إيمانها للبقاء على قيد الحياة فيقولون إذا هُدِّدوا بالقتل للعودة إلى الكفر: ﴿لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ [طه: 72].
فهي أمة سائرة على نهج المرسلين متّبعة لملّة إبراهيم الحنيف u الذي امتثل بأمر الله في ذبح ولده : ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ. وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات: 103-107].
أخبرنا الله تلك القصة لنعقلها، ونفهم منها أن أمر الله مقدّم على المحافظة على النفس والأهل والأولاد والمال، ولذلك لم يكن المسلم في سلفنا الصالح إذا أُرسل إلى جهاد الدعوة أو جهاد الميدان، يعتذر بأنه يخاف على أولاده أو على تجارته وإنما كان يمتثل بالأمر عالماً بأن الله الذي أوجب هذا الواجب هو الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، "إنّ الله لايضيع أهله" كما جاء في الحديث. وإنما كان يعتذر بتلك الاعتذارات المنافقون الفاسقون، مطموسوا البصائر: ﴿لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ. إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ [التوبة: 44-45].
ثم إن الله تعالى دعانا إلى نعيم الجنة وزينتها والإعراض عن الدنيا الفانية وزينتها ثم ترك لنا الخيار، وهذا هو حقيقة الابتلاء: قال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا﴾ [الكهف: 7].
فيكون الناس أمام ذلك على نوعين:
1) مستجيبون لربهم معرضون عن الدنيا ساعون للجنة سعيها، وأولئك هم المؤمنون حقًّا الذين يجب الثقة بهم والاعتماد عليهم في الجهاد.
2) معرضون عن نداء ربهم قد شغلتهم الدنيا عن دينهم لا يقدرون أن يسعوا لإعلاء كلمة الله عُشْرَ ما يسعون لتحصيل الدنيا، ركبتهم الدنيا ولم يركبوها فصار أحدهم جيفة بالليل وحماراً بالنهار، والإنسان إذا صار حاله كذلك يكون إما كافراً كفراً ظاهراً أو منافقاً، ويكون من أهل هذه الآيات الآتية: ﴿إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ. أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ [يونس: 7-8]
إن المؤمن الحقّ إذا قارن بين نعيم الآخرة وزينتها ونعيم الدنيا وزينتها تميل نفسه لا محالة إلى نعيم الآخرة لأنه خير وأبقى فيقدّم الامتثال بأوامر الله على جمع الدنيا ويأخذ من الدنيا ما لا ينقص من دينه قليلاً أو كثيراً.
أما الذي لا تميل نفسه إلى نعيم الآخرة وتملأ الدنيا قلبه ووقته .. فليس له أن يخدع نفسه وأن يعدّها من المؤمنين وقد ظهرت منه أمارات النفاق وعلم بظهورها. وإنما عليه المبادرة إلى التوبة إلى الله قبل حلول الأجل ونزول العذاب: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ. وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ. أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ. أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [الزمر: 54-59].
وليعلم المؤمنون أن الذين يدّعون الإيمان والتوحيد بينما هم عن آيات الله غافلون ولخطوات الشيطان متّبعون ..الذين يتصارعون على الدنيا ويغفلون عن الآخرة أنهم المنافقون الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. وهم أعداء الحركة الإسلامية، كَلٌّ على الجماعة المسلمة التي يجب أن تقوم على أهل التجرّد والإخلاص لا على أهل الدنيا وعبيدها.